السَّيِّئاتُ عَنِّي) : أذقناه نعماء الوصال بعد ضراء الفراق ، أذقناه من شراب الوداد بعد رجوعه إلى المراد ، يطربه المواجيد ، فيسكره أنوار شراب الوصلة ، فيهيج نفسه بهيجان قلبه ، ويضطرب ويفرح بذهاب ظلمة الهجران عنه ، ويظن أن الأوقات باقيات عليه ، فيدّعى بدعاوي البشرية بالمقامات والأحوال عند الخلق ، وذلك غلط عظيم يفرح بغلطه ، ولا يعلم مزلة قدمه فيكون بعد ذهاب الوقت كما كان ، وذلك معنى قوله : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).
ثم استثنى الله سبحانه أهل الاستقامة والثبات في موازات تجلي أنوار قدمه بنعت الخنوع والفناء حتى يجري عليهم بديهة المكاشفة وصولات الوقت بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي : صبروا فيما وجدوا من أعلى الزلفى ، وأرفع القربة ، ولا يفشون تلك الأسرار عند الخلق بنعت الدعوى.
قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)).
ومعنى قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : استقامتهم على تدارك الأوقات بوصف وضع أقدام الصدق على هواهم ؛ حيث يراعون أنفاسهم ، ويقدّسونها عن شربها مع الخطرات ، ثم وعد الله لهم بصبرهم واستقامتهم ، وتدارك أحوالهم غفران ما مضى من الفترة والغفلة ، وأنه تعالى يسترهم عن نفوسهم ، وهواجسها ، وشياطينهم ، ووساوسها بقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : المغفرة : إقبال الله عليهم بوصف قبولهم ، والأجر الكبير دوام الأوقات على السرمدية وتواتر المواجيد ، وبلوغهم إلى انبساطات الأول بوصف رفع الاحتشام ، وتذكير ما سلف من الفرقة.
وقال الأستاذ في تفسير قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) : من استمسك بعروة التضرع ، واعتكف بقوة التذلل ، وتحسا كاسات الحسرة ، علا بعد نهل طالعه الحق بنعت الرحمة ، وجدد له ما اندرس من أحوال القربة ، وأطلع عليه شمس الإقبال بعد الأفول والغيبة ، كما قيل :
تقشّع غيم الهجر عن قمر الحبّ |
|
وأشرق نور الصبح في ظلمة الغيب |
وليس لأحوال الدنيوية كبير خطر في التحقيق ، ولا بعد نوالها وتكدّرها من جملة المحن عند أرباب التحصيل ؛ لكن المحبة الكبرى ، والوزنة العظمى تذبل غصن الوصال ، وتكدّر مشرب القرب ، وأفول شوارق الأنس ، ومد بصائر أرباب الشهود ، فعند ذلك تقوم قيامتهم ،