قال أبو بكر الوراق : الحياة الدنيا هي ارتكاب الأماني ، واتباع الشهوات والجولان في ميادين الامال والغفلة عن بغتة الاجال ، وجمع ما فيها من الأموال من وجوه الحرام والحلال في زينة الدنيا هي ما أظهر الله فيها من أنواع العلائق التي أخبر الله عنها بقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)).
وتصديق ما ذكرنا من وصف العارفين والمرائين قوله سبحانه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) ، تقدير الاية على وجه الاستفهام ، (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) كمن هو في الضلالة والجهالة ، أفمن كان معرفة من ربه وولاية وعلامة من كراماته وكل عارف إذا شهد الحق سبحانه بقلبه وروحه عقله وسره ، وأدرك فيض أنوار جماله وقربه يؤثر ذلك في هياكله ، حتى يبرز من وجهه نور الله الساطع ، ويراه كل صاحب نظر ، قال تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) : فالبينة بصيرة المعرفة ، والشاهد بروز نور المشاهدة منه.
وأيضا : البينة كلام المعرفة وشاهده الكتاب والسنة ، ومن كان بهذه المثابة يرى بعين الحق مكنون الغيوب وأسرار القلوب ، ومشاهدته غالبة على يقينه ، ويقينه غالب على بصيرته ، وبصيرته غالبة على عقله ، وعقله غالب على نفسه بحيث لا يزاحم هواجسها على مناطق الغيب ، وظلمتها لا تغشى أنوار القرب ، بل هي فانية بحياتها تحت وارد الحق من الكشف والعيان والبيان ، ويبين ما قلنا ويصدقه قوله تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) : كل وارد من الحق فهو الحق حين زالت عنده معارضة النفس ، فإن خطر معارضة في أول نزول الوارد فهي امتحان الحق فيرد عليها واردات حقيقة فتزيلها أصلا ، قال الله : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) حين بقيت الواردات وزالت المعارضات.
قال أبو عثمان : من كان على البينة لا يخفى عليه سرّ.
وقال رويم : البينة هي الإشراف على القلوب ، والحكم على الغيوب.
قال الجنيد : البينة حقيقة يؤيدها ظاهر العلم.
قال أبو بكر بن طاهر : من كان من ربه على بينة كانت جوارحه وقف على الطاعات والموافقات ، ولسانه مزمورا بالذكر ونشر الالاء والنعماء ، وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق ، وسره وروحه مشاهد للحق في جميع الأوقات ، عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ومستورها ، ورؤيته للأشياء رؤية يقين لا شكّ فيه ، وحكمه على الخلق كحكم الحق ، لا ينطق