فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦))
قال بعضهم : كيف يستطيع السمع من لم يفتح مسامعه لسماع الحق ، وكيف يبصر من لم يكتحل بنور التوفيق ؛ إذ لا سماع إلا عن إسماع ، ولا بصر إلا عن إبصار.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) : (آمَنُوا) أي : أيقنوا مواعيد الغيب بنعت رؤيتها ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بذلوا مهجهم للوصول إلى قرب الحق ، وزكوا سرائرهم بصفاء الذكر وجولان الفكر ، (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) : فنوا تحت أنوار سلطان كبريائه حين عاينوها بأبصار أسرارهم ، أولئك أصحاب مشاهدة صفات البقاء بعد إفنائهم في أنوار صفات القدم ، باقون في البقاء ؛ لأنهم لا يزالون بعد ذلك إلا أصحاب الصحو بعد المحو.
قال شاه الكرماني ـ رحمة الله عليه : الإخبات ثلاثة : غم الإياس مع التوبة لكثرة العود إلى الذنوب ، وخوف الاستدراج في إسبال الستر ، وتوقع العقوبة في كل وقت حذر ، أو إشفاقا من العدل.
قال الأستاذ : الإخبات التخشع لله بالقلب بدوام الانكسار ، ومن علامات المخبتين الذبول تحت جريان المقادير بدوام الاستعانة بالسر ، ثم أن الله سبحانه فرّق بين المقبولة في الأزل بنعت اصطفائيتهم بالولاية ، وبين المطرودين في القدم باحتجابهم عن الوصلة والمشاهدة بقوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) (١) : مثل المحق والمدعي كمثل السميع والبصير والأعلى السميع يسمع بسمع الحق من الحق كلمات الحق التي يفرق بها بين لمات الملكوتية ، والهواجس النفسانية ، ويبصر ببصر الحق جمال الحق الذي ينور بصائر العارفين ، وأبصار المحبين بحيث يرون بها ضمائر القلوب ، وحقائق الغيوب فهذه
__________________
(١) فمثل الكافر كمن جمع بين العمى والصمم ، ومثل المؤمن كمن جمع بين السمع والبصر. فالواو لعطف الصفات ، ويجوز أن يكون شبه الكافر بمن هو أعمى فقط ، وبمن هو أصم فقط والمؤمن بضدهما ، فهو تمثيل للكافرين بمثالين ، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي : يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى ؛ لتعاميه عن آيات الله ، وبالأصم لتصاممه عن استماع كلام الله ، وتأبيه عن تدبره معانيه. أو تشبيه المؤمن بالسميع والبصير ؛ لأن أمره بالضد ، فيكون كل منهما مشّبها باثنين باعتبار وصفين. أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم ، والمؤمن بالجامع بين ضديهما ، والعاطف لعطف الصفة على الصفة. البحر المديد (٣ / ٤٠).