(٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨))
قوله تعالى : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) : هذه عادة السفلة وأهل الجهل والغباوة الذين قاسوا بارائهم الفاسدة حال الأنبياء والصديقين ، ولو شاهدوا ذرة من حالهم لماتوا حسرة من شوقها ، لكن سبق لهم الشقاء الأزلي محجبهم عن جمال أحوالهم وأنوار أسرارهم ، وبقوا بظنونهم المختلفة ، وقياساتهم الفاسدة في الأشكال والهياكل ، واحتجبوا عن رؤية الأرواح وطيرانها في الملكوت والجبروت ، وتكبروا على أولياء الله من قلة معرفتهم بنفوسهم ، ومن قلة إدراكهم حقائق القوم.
قال ابن الفرحي : لم يشهد مخالف الأنبياء والرسل منهم إلا الهياكل البشرية ، وعموا عن درك حقائقهم في ميادين الربوبية ، واختصامهم بما خصوا به من فناء حظوظهم فيهم ، وبقاء أشباحهم وهياكلهم رحمة للخلق ، فقالوا : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) : أكلا وطعما وشربا ، ولو لاحظوا مقامهم من الحق وقربهم منه لأخر سهم مشاهدتهم عن مثل هذا الجواب ؛ لأنهم في مشاهد القدس.
(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣))
قوله تعالى : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) : بيّن سبحانه من قول نبيه نوح عليهالسلام أنه قال : ما أنا بطارد قوم اختارهم الله بالنظر إلى جماله والجلوس على صفائح قدسه ومجالس أنسه وسماع كلامه ، والمعرفة بصفاته وذاته وقربه وقرب قربه في الأزل وسابق العلم.
تصديق ذلك قوله : (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي : ليس على قبولهم ولمرادهم من اختارني