الثناء والنفس والعبودية والتكليف والكينونة والقرب والبعد والتصاريف والعلل من ساحة وجود صاحب الجود الأزلي بقوله : «أنت كما أثنيت على نفسك» (١).
جئنا إلى ظاهر الاية : إن نبي الله نوحا عليهالسلام كان في مضيق القبض من أذى قومه ، فاشتهى وصلة بلا فرقة ، وبسط بلا قبض ، وأنسا بلا وحشة ، فدعا ربه حتى يخلصه من ذلك ، فأغرق قومه وناجى ربه ، وانفرد به عن كلّ ، فتغاضت بشريته ابنه ، فجاء الموج وأغرق الكل حتى لا يبقى في قلبه غير الله.
وقال الأستاذ : لما غرق ابن نوح عليهالسلام سكن الموج ونضب الماء وأقلعت السماء ، فكأنه كان المقصود من الطوفان أن يغرق ابن نوح.
فكان كما قيل :
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها |
|
فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر |
ثم أخبر سبحانه عن انبساط نبيه نوح عليهالسلام بقوله : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) : تحرك سر بشريته في موضع أحسن الحق حيث من حقه تقديس الأسرار عن النظر إلى الأغيار ، وبذل الموجود والمجهول بينه وبين الخليل عليهالسلام في منزل الامتحان فرقّ حين ألقي إلى النار ، ولم يلتفت إلى إعانة المخلوق ، حين قال : «أما إليك فلا» (٢) وسلم نفسه ، ولم يتعرض لقلبه معارضة برئ من حوله ، وقوله من نفسه والكون جميعا ، وههنا قد التفت إلى غرق ابنه ، وأين ذكر الابن في منازل التوحيد والتسليم ، والرضا شرط المعرفة والتوحيد فنادى ، وقد طاب في مناداته مع ربه سبحانه وسأل ابنه ، وحكم بأنه أهله وليس هو من أهله قال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).
وأيضا : تعرض داء علقة البشرية بينه وبين رؤية القدر السابق ، ولو لا ذلك بإرسال الله بالمناداة في منازل الانبساط ، وأسرار المناجات لطائف الخطاب ، وحقائق المكاشفات ، وكل انبساط في مقام الامتحان ليس على مقارنة رؤية حكم السابق ، فهو ساقط عن محل البلوغ وإدراك المراد.
قال الحسين : لم يوزن لأحد في الانبساط على بساط الحق محال ؛ لأن بساط الحق عزيز حواشيه قهر وجبروت ، فمن انبسط عليه رد كنوح عليهالسلام لما قال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) قيل : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).
ثم إن الله سبحانه عرف نبيه نوحا عليهالسلام بعد ارتفاع الأهلية بينه وبين ابنه بارتفاع أهلية
__________________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) رواه الطبري في التفسير (١٧ / ٤٥).