في صدره ، فأذن لهم بذلك ؛ ليخرج يوسف عليهالسلام لحظة من تحت أثقال هموم المعرفة ، وتواتر تراكم حزن المحبة ، ومواجيد القربة ، ويستروح ساعة برؤية الالاء والنعماء ، فسامحهم بذلك ، ليس أنه غافل عن تأديبهم ، وزجرهم عن اللهو واللعب ، ورأى ما في ضمائرهم من لطيف المكر ، وعلم أنه موضع البلاء ، فجعل المعول عليهم وسبق التقدير على التدبير ، وحجب غيرة الله بينه وبين يوسف عليهالسلام.
قال محمد بن على الترمذي : لما لم يزجرهم عن اللعب وسكت عنهم جاء من ذلك اللعب ما اتصل عليه به الحزن.
قال ابن عطاء : لو أرسله معهم وسلمه إلى القضاء لحفظ ، لكنه اعتمد على حفظهم : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، فخانوه ، لو ترك تدبيره عليه وحفظهم له لكان محفوظا كما حفظ الاخرين ، قال : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً).
قال بعضهم : رجع يعقوب إلى نفسه في ثلاث مواطن فابتلي فيها : قال ليوسف عليهالسلام : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) فكادوا له ، ولما قالوا : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) قال : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) فقالوا : أكله الذئب ، ولمّا قال لهم : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) ، أصابهم في ذلك ما حذر عليهم منه.
قوله : (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) : صدق يعقوب خاف من ذئب حسدهم ، وبرؤيته في ذلك حقيقة ، وكل ما رأى يعقوب من هذه الواقعات فقوله فيها وقوع نظر سره على سابق التقدير ، وكل ما قال لبنيه من الزجر والنصيحة في حق يوسف عليهالسلام مما رأى بنور النبوة ما يقع في المستقبلات من الواقعات ، وذلك غير مناقض لحقيقة التوحيد ، وكيف يكون استعمال معاملات العقل وعادة البشرية حجاب الأنبياء والصدّيقين من رؤيتهم حقائق التقدير ، وهم يعلمون أن من العرش إلى الثرى من الحريات والسكنات عاجزة بين حرفي الكاف والنون.
وأيضا : أخاف من ذئب التقدير أن يفرّق بيني وبين ابني وأنتم عما أراه غافلون ، رأى غيرة الحق عليه حتى لا ينظر إلى الوسائط في شهود حقيقته ، وتصديق ذلك أن الذئب لم يأكل يوسف ، فعلمنا أن الذئب ذئب الحسد ، وكيف كانت فراسة خطأ ، ورأى بنور فراسة ما كان يجري على يوسف إلى آخر عمره وافق في متابعة مراد الله ؛ لأنه أراد أن يفرق بينه وبين يوسف عليهالسلام أريد وصالي ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد.
قال أبو على الجوزجاني : خاف الذئب فسلط عليه ، ولو خاف الله لمنع عنه كيد الإخوة.