وقال الجنيد : ما أوقعهم في الحسد إلا ما أظهر من شفقته عليه بهذا القول.
قوله تعالى : (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : لمّا رأى يعقوب أن حبال التقدير لا تضر وأن تواتر البلاء لا ينقطع وأنّ عساكر الغيرة لا تمتنع أرسله معهم ، وذهب مع سيول بحر القهريات مريد المرادة ، وكيف تدفع تقدير الأزل قوة العصبة وعلة التدبير ، وربما نفي نظر التوحيد في بعض الوسائط في بعض الأوقات ، فقطع الله ذلك حتى لا يستمسك غريق بحر المعرفة من قبلهم ، فالقوة في الجب ، ثم لما أرسل بنيامين قال : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) : حفظه وردّه إلى يوسف عليهالسلام ، وردّهم جميعا إلى يعقوب ، كذا حال من اعتمد على ربّه ، ومن اعتمد على غيره.
ولما وقع يوسف عليهالسلام في بحر الامتحان ، وعجز في أيدي الأخوان ، وذاق طعم جفائهم ، رفع عروس الغيب رأسه عن بحر البلاء لتسلية قلب يوسف عليهالسلام بالولاء بقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : لتنبئنّهم بأنباء الأزلية ، ومناطق الربوبية بلسان النبوة ما غاب عنهم ، وما علموا وفعلوا وصنعوا حين نبلغك إلى رتبة الأعلى من النبوة والرسالة والتمكين والاستقامة ، وهكذا كمال تسلية الله سبحانه صديقه في ابتلائه.
وقال الأستاذ : الإشارة فيه أنه لما حلّت به البلوى عجّلنا له تعريف ما ذكر من البشرى ليكون محمولا بالتعريف في عين ما هو محتمل له من البلاء العنيف.
ويقال : إن انقطع عن يوسف عليهالسلام مراعاة أبيه إياه حصل له الوحي من قبل مولاه.
قوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) : سرّ هذه الاية أن طبيعة البشر إذا ظفرت بمرادها رقّت ، فإذا دعيت بالبكاء أجابت ، ولكن لا يكون بكاءها إلا من فرح الخداع وحب الجاه والرياسة ، وإنّ ذلك البكاء أكثره تباكيا ، بكوا بغير عبرة ولا بفلق وحزن من أسف ، ولا بزفرة جاءوا عشاء حتى لا يتبين تباكيهم من بكائهم ، وليرتفع من بينهم وبين أبيهم سجون الاحتشام :
إذا اشتبكت دموع في خدود |
|
تبيّن من بكى ممن تباكى |
قيل : أخروا المجيء إلى وقت العشاء الاخرة ليدنسوا على أبيهم.
وقيل : ليكونوا إجراء في الظلمة على الاعتذار ، وترويح ما مكروا.
قوله : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) : فتح الله سبحانه ثوب رزق الرازقين في هذه الاية ، الذين زينوه بالرزق والسود ، وادّعوا صدق المقامات والكرامات ، وإنّ دم الكذب إشارة إلى من يدعي جراحة المحبة على