قال يحيى بن معاذ : الصبر الجميل أن يتلقى البلاء بقلب رحيب ووجه مستبشر.
(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))
قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) : فلما خرجت الأرواح من أماكن العدم وطارت في هواء القدرة وطلبت أنوار موارد القدم فوجدت قاموس الكبرياء ، فأدلت دلاء الهمم فيها ، فانكشف لها من مطالع الأزل شموس المشاهدة وأقمار العزة ، فلما ظفرت بموارد الحقيقة صاحت بصياح العشق وقالت : يا بشرى ، هذا شاهد القدم وعروس الأزل ، فوجدت شاهدها ، وفرحت بمشاهدته ، وطارت سكرانة في هواء آزاله وآباده من الفرح ببقاء ؛ لأنها وجدت بضاعة المعارف وريح الكواشف.
قوله تعالى : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) : جعلت أنوار جلاله في صميم أسرارها ، وسترها عن الأغيار ، وجعلها بضاعة التوحيد والمعرفة والمحبة ؛ ليريح بها مداناة الوصال والاستئناس بالجمال ، يا ليت لسيادة يوسف عليهالسلام لو عرفت ما في وجه يوسف عليهالسلام من تلألؤ أنوار حسن الأزل لسجدت له ، كما سجدت الملائكة لأنه كالعبودية ، ولكن للعشق والمحبة ؛ لأنه شاهد الله في شاهد الله.
قال جعفر : كان لله تعالى في يوسف عليهالسلام سرّ ، فغطى عليهم موضع سرّه ، ولو كشف لهم عن حقيقة ما أودع فيه لماتوا ، ألا تراهم كيف قالوا : (هذا غُلامٌ) ، ولو علموا آثار القدرة فيه لقالوا : هذا نبيّ وصدّيق (١).
ولما كشف للنسوة بعض الأمر : (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) ، ولما لم يعرفوه بخاصية النبوة والولاية ، ولم يروا عليه آثار جمال الله سبحانه باعوه بثمن بخس ؛ لجهلهم به وبما فيه من ودائع كنوز القدرة وأنوار المشاهدة ، والعلوم اللدنية الغيبية بقوله : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ).
ولو كان فيهم ما كان في يعقوب عليهالسلام من عشق الله ومحبته ، وما رأى في مرآة وجهه من أنوار قدرة الباري سبحانه ، ما باعوه بالكونين والعالمين ؛ لأن ما في وجه يوسف عليهالسلام من جمال الظاهر لم يكن في الكونين إلا في أمثاله من الأنبياء والصدّيقين ، وجمال ظاهره كان من جمال
__________________
(١) نادى البشرى ، بشارة لنفسه ، أو لقومه ، كأنه قال : تعال هذا أوانك. وقيل : اسم لصاحبه ، ناداه ليعينه على إخراجه فأخرجوه. البحر المديد ـ (٣ / ٩٧).