وما ذكرنا من هذه المعاني الغريبة والتفاسير العجيبة من حقائق أمر الإلوهية لا يعرفها إلا أبناء المعرفة ونظّار المشاهدة.
قال الله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) : لا يعلمون مواضع تقدير الأزلية ؛ حيث دبّر أمور الحدثان من العرش إلى الثرى ، وكيف يطّلع الحدثان على قدم الرحمن.
قال ابن عطاء : غالب على أمر نفسه ، أجراه على ما شاء إلى من شاء ، وصرفه عمّن شاء ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه الغالب في أمره الذي أمر عباده من طاعتهم ، إن شاء يسّر لهم من طاعته ، وإن شاء أعجزهم فيها.
قال الواسطي : يصرفهم في تدبيره ويدبّرهم في تصريفهم ، ويجد منهم المفقود ، ويفقد منهم الموجود ، فالإضافات ضرب من الإشراك.
ثم وصف الله سبحانه بلوغ يوسف أشد النبوة والولاية والتأييد الأزلية ، وما وهبه من أنوار العلوم والحكمة بقوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) : (أَشُدَّهُ) : تمكينه واستقامته في المعاملات والحالات ومراتب الاداب في العبودية كشف له تصرفات الربوبية في معادن المكاشفة.
(حُكْماً وَعِلْماً) : حكما بالعبودية ، وعلما بالربوبية ، حكما بالطريقة ، وعلما بالحقيقة ، حكما بممالك الدنيا ، وعلما بممالك الاخرة.
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) : نجازي المحسنين الذين راقبوا الله سرّا وعلانية ، وبذلوا مهجتهم بالله وفي الله إلى الأبد.
قال النصر آبادي في هذه الاية : لما عقل عن الله أوامره ونواهيه والاستقامة معه على شروط الأدب أعطيناه حكما على الغيب في تعبير الرؤيا ، وعلما بنفسه في مخالفة هواها.
قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) : كانت مستغرقة في العشق الروحاني فغلبت عليها شهوة العشق ، فراودته ، وذلك أن رعونة سر الطبيعة صارت منجذبة برقة عشق الروحاني إلى معدنه فغلظت وصارت محجوبة بالطبيعة من الحقيقة.
(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) : لمّا كان عشق يوسف عليهالسلام في قلبها ، وصورته مصورة في خيالها لا يحتاج إلى غلق الأبواب ، فإن قيد همتها حكمة همّت يوسف حين همّت به وهمّ بها أغلقت أبواب أسرار عشقها على يوسف ، فصارت فاشية بأن العشق لا يبقى الكتمان :
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر |
|
ولا تسقني سرّا إذا أمكن الجهر |