(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤))
قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) صحت ها هنا بيان المكاشفة ، وأوائل المشاهدة التي جرت ذكرها بقوله : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) لما بان سطوع أنوار عزة الله على الصديق العزير علا هيبته عليهم ، وعاينوا ما عاينت الملائكة في آدم عليهالسلام ؛ فخروا له سجدا بغير اختيارهم ؛ لأنه كان كعبة الله التي فيه آيات بينات أنوار مشاهداته وسنا تجليه ، وظهور جلاله من إلباس قدرته مقام إبراهيم عليهالسلام حين قال : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] رأى ذلك في آيات ملكوت السماء ، ورأوا ذلك في آيات ملكوت الأرض ، لو رأى الملك وأهل مصر فيه ما رأى يعقوب عليهالسلام وبنوه لخروا له سجدا كما قال القائل :
لو يسمعون كما سمعت كلامها |
|
خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا |
فلما اقترنت المكاشفة بالمعاينة ، قال تعالى (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أظهر على يعقوب عليهالسلام كمال علمه بتأويل أحاديث المكاشفات ، والايات المنامات ، قال تعالى : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي : بيانا بينا ليس فيه معارضة النفس.
ثم أثنى على الله سبحانه لما أولاه من نعمه الرفيعة ، وكراماته الساطعة بقوله : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) أي : أخرجني من سجن بلاء النفس وخطوات الشيطان ، وأيضا أطلقني من أسرار الإرادة والمجاهدة والرياضة والامتحان إلى سعة بساط الرضوان والمعرفة والمشاهدة والإيقان ، ذكر السجن لأن هناك موضع التهمة ، أي : أخرجني بكونه من سجن التهمة بأن أظهر طهارتي من الذلة ، وأيضا بدأ بذكر السجن وما جرى لأجله لئلا يحزن قلوب إخوته ، وهذا من شرائط كرم المكرمين ، أسقط خجلهم حين أظهر ما جري عليه من الهمة ، وطول لبثه في السجن من التفاته إلى غير الله من وقت امتحان ، ثم ذكر منازلهم ، وما فضل على أبويه وإخوته بقوله تعالى : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي : من بوادي