الفراق إلى منازل الوصال جاء بكم من منازل التفرقة إلى عين الجمع ، ومن محل التلوين إلى محل التمكين ، ثم رفع بكرمه الجرم عن إخوته واستعمل الأدب حين لم يذكر ذكر القدر تنزيها لقدر الله وقدره من مباشرة العلة بقوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي : ليس من طبائع الأولياء حركات الأعداء ، إنما كان شيئا طارئا بغير اختيارنا ، أغرى الشيطان بالنزغات بيننا لزيادة درجتنا ، وصفاء مودتنا.
ثم وصف الله سبحانه باللطف والرحمة والعلم والحكمة بقوله : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) لطيف حيث جعلني لطيفا في حسن وجهي ، عليم بنيتي في عفو أخوتي وقبول عذرهم ، وأيضا عليم بخلق صورتي ، حكيم حيث خصني بحكمة النبوة والرسالة.
قال السيد جعفر الصادق عليهالسلام : قال : قال يوسف عليهالسلام : (أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يقل أخرجني من الجب وهو أصعب.
قال : لأنه لم يرد مواجهة إخوته بأنكم جفوتموني وألقيتموني في الجب بعد أن قال تعالى : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ).
وقال ابن عطاء : الحكمة أن السجن كان اختياره بقوله : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ، والحب موضع اضطرار ولم يكن له فيه شيء ، وفي الاختيار أفاق شكرانه حين خلصه من فتنة اختياره لنفسه ، وعلم أن ما اختياره الحق كان فيه الخيرة ، وخاف من اختياره لنفسه لما نجاه الله من ذلك شكره.
وقال الواسطي : قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن بعد أن عمدت فيه سواء بقوله لصاحب السجن : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).
وقال جعفر رضي الله عنه : في قوله ربي لطيف لما يشاء أوقف عباده تحت مشيئته ، إن شاء عذبهم ، وإن شاء عفا عنهم ، وإن شاء قربهم ، وإن شاء بعدهم ، فيكون المشيئة والقدرة له لا لغيره ، ثم أظهر لطفه بعباده الذين خصهم بفضله بالمحبة والمعرفة.
وقال الأستاذ : ذكر حديث السجن دون البئر لطول مدة السجن ، وقلة مدة البئر.
وقال في قول الله تعالى : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) إشارة إلى أنه كما سر برؤية إخوته وإن كانوا أهل الجفاء ؛ لأن الأخوة سبقت الحفرة ، ثم رجع إلى الحق بالكلية ووصف بما نال من كرمه بقوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) من ملك النبوة والعلم بحقائق المخاطبة ، وأيضا أعطيتني من ملكك ملك الربوبية حيث ألبستني شواهد