وقال أبو عثمان : هوّن الدنيا وحقّرها في أعينهم لئلا يشق عليهم تركها بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) قطع أسباب إضلال أهل الضلال وعلّق الهداية برجوع الراجعين إليه.
قال : يضل من يشاء في الأزل ويرشدهم طريق الإنابة إليه يضلهم عن مشاهدة جماله ، ويهدي العارفين إلى مشاهدة وصله.
قال بعضهم : يضل من قام بنفسه واعتمد عليها من سبيل رشده ويهدي إلى سبيل رشده من رجع إليه في جميع أموره ، وتبرأ من حوله وقوته.
وقال جعفر : يضل عن إدراكه ووجوده من قصده بنفسه ، ويوصل إلى حقائقه من طلبه به ، ثم وصف الذين أنابوا به إليه حيث أبصروا ما برز من وجه نبيه صلىاللهعليهوسلم من أنوار الرسالة ، وأيقنوا حقائقه ولم يحتاجوا إلى آية أخرى كطلاب البرهان من رسول الرحمن بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) بيّن سبحانه أن ذكر المؤمنين مقرون بإيمانهم ؛ فامنوا بالغيب من حيث الاعتقاد بالغيب بما وهبه الله من نور الإيمان وطمأنينة قلوبهم بذكر الله ، والله تعالى غيّبهم آمنوا به ولم يكونوا مطمئنين بإيمانهم بالله لكن مطمئنين بذكر الله فإيمانهم غيب أيضا ، وذكرهم غيب ولو شاهدوه مشاهدة كشف صار غيبهم طمأنينة قلوبهم به ، وسقط عنهم الذكر ؛ فأما ما دام لم يصلوا إلى مشاهدة المذكور فاقترنت طمأنينة قلوبهم بذاكره ، وذكره للمؤمنين على معنيين ، ذكر الظاهر على ضربين ، ذكرهما اللسان ، وذكرهم الاذان ، وذلك عند سماعهم ذكر الله ، وهذا الذكر الذي من طريق اللسان والسمع يزيد طمأنينتهم من حيث التربية والتواجيد وذكر الباطن ، وذلك على حزبين أيضا ، ذكر قلوبهم قدرا الله وجلاله ، وذلك من قوله : رؤية آلاء الله ونعمائه ، وتفكر في آياته وصنائعه ، وذلك كسب القلوب ، وما لم يكن من الذكر مكتسبا ؛ فذكر الله قلوب أصفيائه ، وذلك يتعلق بواردات غيب أنوار وجوده حيث انكشف لها وهو ذكر خالص إلهي بلا علة ولا سبب وخالص طمأنينتها به وما سواه من الذكر ؛ فهو مغلول قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أو بذكره في نفسه إياهم وذكرهم له بعد ذكره لهم ، فإذا كان الذكر يأتي من محل الإيمان فيتولد منه الرهبة والرغبة والوجل والخوف والقلق والرجاء وحسن الظن.
وأما إذا كان ذكر الإيمان يكون من محل الإيقان أي : الذين أيقنوا مشاهدة الله ولقائه فهم ذاكرون الله بنور إيقانهم في وجوده ونور الإيقان أشرق من نور الإيمان ؛ فنور الإيمان كصبح الأول ونور الإيقان كصبح الثاني ، فأهل اليقين في طمأنينة قلوبهم بذكر الله في رؤية أنوار لوائح الحضرة ولوامع نور الإلهية ، فذكر قلوبهم بقدر وضع تلك اللوامع ، فإذا ذكرهم