وإن كسبت معرفته وتوحيده في رؤية سحاب أنوار ذاته ؛ فإن قصرت للنفس الأول في عبوديته بالتفاتها إلى حظها أخذها الحق بعقوبة المجاهدة ، وإن قصرت النفس الثاني في محبته بأنها استلذّت محبته ، ووقفت باللذّة عنه أخذها الحق بأن وقعها في بحر النكرة ، لكن الأخذ ها هنا الزيادة معرفتها لأنه سبحانه مشفق على النفس العارفة ، وهو تعالى أخذ هذه النفوس قائم بنعت حفظ أنفاسها في طلبها الحق.
قال الجنيد : بالله قامت الأشياء ، وبه فنيت ، وبتجليه حسنت المحاسن وباستنارته قبحت وسمحت.
قال محمد بن الفضل : لا تغفل عمن لا ينفك عنك وراقبه ، وكن حذرا.
قال الله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ثم بيّن سبحانه أن من لم يعرف المحيط بكل شيء القائم على كل نفس ممن دونه من الحدثان ، إن ذلك من قهره عليه وتزيين كفره في عينه بقوله : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) زيّن الله مكرهم بمكره فيهم في الأزل في عيونهم حتى رأوه مستحسنا وهو من أقبح القبائح ؛ لأنه موضع هلاكهم وصدهم عن معرفته وحسن مشاهدته ، وكيف يخلصون بمكرهم من مكره ويعرف مساوئ مكرهم بعد أن زيّن الله مكرهم لهم ، قال تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧))
قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) أي : صفة الجنة التي وعد المتقون ، وهو جنة مشاهدة الذات تجري من تحتها أنهار الصفات ، ثمره ثمر أشجار الصفات والذات للمتجردين عن الحدثين دائم بأنهم يعينونها بلا حجاب ، ويعيشون في ظلال تجليها بلا غصة ولا حجاب ، تلك منازل أهل الأشواق إلى رؤية الملك الخلاق المتبرئين من الشرك والنفاق.
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا) مادام في حيز الحدوثية ، وإن رأى ما رأى عليه من أنوار الربوبية ووفق عليه بألا يلتفت إلى ما بدا في نفسه