أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))
قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١) إذا أخرج الأمر جل جلاله على وفق مراد العارف ، جعل ذلك منه عليهم ، ثم طلب منهم شكر المنّة بوصف الطالعة والمتابعة ، وزجرهم عن عصيانه ، وخوفهم عن وعيد قرآنه ، وعظيم مقامه عليهم بوصف الإحاطة على وجودهم وأسرارهم وضمائرهم لئلا يزول منهم بالغفلة عنه ، ومقامه بالتفاوت ؛ فمقامه على المريدين بالزجر والتهديد ، ومقامه على المحبين بالهيبة والتعظيم ، ومقامه على العارفين بالإجلال والحياء ، ومقامه على الموحدين بغلبات سطوات الكبرياء على قلوبهم ، ومقامه على أهل الأنس والشوق والعشق على نعت كشف مشاهدة جماله وجلاله.
وها هنا الخوف من مقامه ووعيد مفارقته ، ووداعه منظر قلوب المستأنسين حتى تكون خاليه عن كشف مشاهدته ، وأدق الإشارة فيه أن مقامه القدم في القدم ، والبقاء في البقاء ، وذلك المقام معدن الألوهية ، ومنبع السرمدية ، والخوف من ذلك الهيبة والإجلال ، وهذا المقام مقام الربوبية في الربوبية ؛ لأن الحدث يتلاشى في بوادي سطوة عزته تعالى الله عن كل علة حدثانية.
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) خلق الكون بحق إرادته القديمة ، والمشيئة السابقة التي سبقت بكون الكون في الأزل ، وأيضا علم الكون حقا في الأزل ؛ فأظهر الكون بحق العلم والإرادة والمشيئة إظهار الحق حقيقة ، ولحقوق ربوبيته وعرفانه من أهل عبوديته كأنه خاطب لرؤية تلك الحقائق ثم ارتقى من رؤية الحقيقة إلى رؤية عين الحقيقة بقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ) ثم نزل من الذات إلى الصفات ، ومن الصفات إلى الأفعال ، وقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فرؤية أنوار فعله للعقول ، ورؤية أنوار صفاته للقلوب ، ورؤية أنوار ذاته للأرواح ، ورؤية أنوار عين الحقيقة للأسرار.
__________________
(١) أي : قيامه للحساب بين يدي في القيامة ، أو قيامي على عبادي ، وحفظي لأعمالهم ، واطلاعي على سرهم وعلانيتهم ، أو خاف عظمة ذاتي وجلالي ، (وخاف وعيد) أي : وعيدي بالعذاب ، أو عذابي الموعود للكفار. البحر المديد (٣ / ١٩٢).