إن الله سبحانه بيّن كالألف بحر الإثبات ؛ لأنه خير عن الأولية ، ألا ترى كيف قدمها على أول اسمه الله ، وبيّن باللام بحر النفي ؛ لأنها شقيقة لام لا ، وبين بالراء بحر كشف الربوبية ، وظهور أنوار الرؤية ، وهذه من شرائط المعرفة ، فمن لم يسبح في بحر النفي بنعت الفناء لوجدان عين الحقيقة ، وحق البقاء لا يبلغ إلى بحر الربوبية ، ولا يدرك لطائفها ، ولا يصل إلى عيان كشف الرؤية بحقائقها ، وقد انقلبت هذه الحروف من أماكنها إبهاما ، وإشارة لفهوم الفهماء ، وإدراك العلوم والعلماء ، ألا تراها في نص صورة الإيمان ، كيف كانت أولها لا إله ، ثم ذكر محل الإثبات بالألف إلا الله ، ولم يذكر الزاي ؛ لأن الأكثرين استغرقوا في البحرين ولم يصلوا إلى البحر الثالث ، لأجل ذلك لم يذكر الراء في هذه الكلمة ، وهذا سر عجيب لا يعرفه إلا أهل السر من أهل التوحيد ، وهي أصل الكتاب ؛ لأن الكتاب جاء مخبرا بمجموعة عن أسرار ما بلسان صاحب الواقعة عليهالسلام ألا ترى إلى قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) أي : هذه الحروف المتشابهة أصل هذا الكتاب ، والكتاب تفسيرها يترجمها بما فيها في السورة بلسان القرآن ، والقرآن مجمع أوصاف الربوبية ، وخبر ما كان في الحروف المعجمة يخبر بلسان مبين يبيّن عند كل عارف عالم القرآن ، مبين في ذاته ليس فيه إبهام ، لكن لم يخرج جلاله وجماله من الحجاب بالحروف بنعت التبيين إلا لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد ، فيبيّن عن أسراره على قدر إفهام السامعين ، فالموحد يسمع من حيث التوحيد فيوله ، والعارف يسمع من حيث المعرفة فيبهت ، والعاشق يسمع من حيث العشق فيتيه ، والمشتاق يسمع من حيث الشوق فيهيم ، والمحب يسمع من حيث منه ؛ لأنهم من معرفته بالحقيقة في ظنونهم وقت ألم القرآن بوصفه لأهل الستر ، فالأنيس يستأنس بجماله ، والسكران يطير بفهم خطابه ولذة سماعه.
قال الأستاذ : بيّن للمؤمنين ما يسكن قلوبهم ، وللمريدين ما يقوي رجاءهم ، وللمحبين ما يهيج اشتياقهم ، وللمشتاقين ما ينوّر أسرارهم ، ولمّا عظم شأن القرآن في خبر الملكوت والجبروت لانقياد الأكوان والحدثان عند جناب الرحمن ، وخضوع العارفين بنعت الفناء على جناب عز البقاء ، وبلغوا بأياديه القدمية ، ومننه الأزلية عليهم إلى مقام النظر إلى جماله وجلاله ومعينة ذاته وصفاته ، وبروز أنوار جلالهم بين أطباق الأكوان ، ويراها مع غرتها أهل الطغيان ، ويتمنون أنهم كانوا منقادين مستسلمين كما كان أهل المعرفة والحقيقة فيه للحق منقادين بقوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) الساقطين عن طريق الحق يودون أنهم من المريدين ، ولم يكونوا من المنكرين ، ولم يكونوا من المجتهدين ، ولم يكونوا من الكسالى البطالين ، وأن يكونوا من الراضين ، ولم يكونوا من الساخطين ، وأن يكونوا من المتوكلين ، ولم يكونوا بتدابيرهم لأجل الرزق من المقيمين ، وأن يكونوا من العالمين ، ولم