يكونوا من الجاهلين ، ومن الموقنين لا من الشاكين ، ومن العارفين لا من المقلدين ، ومن الموحدين لا من المدعين ، ومن المخلصين لا من المرائين.
قال بعضهم : ربما يود الذين فسقوا لو كانوا مطيعين (١).
قيل : ربما يود الذين كسلوا لو كانوا مجتهدين ، وربما يود الذين غفلوا لو كانوا ذاكرين.
قال ابن الفرح : الكفر ها هنا كفران النعمة ، معناه ربما يود الذين جهلوا نعم الله عندهم وعليهم أن لو كانوا شاكرين عارفين برؤية الفضل والمنّة.
قيل : إذا صارت المعارف ضرورية احترقت نفوس أقوام عقوبة ، وتقطعت قلوب آخرين حسرة.
ثم سلّى قلب حبيبه عن إنكارهم ، وطيب بخطابه فؤاده ؛ فقال الله تعالى :
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وصف المنكرين بشره بطونهم وشهوات فروجهم وأمل نفوسهم شبههم بالبهائم ، وجعلهم أجهل منها بأملهم ومنازعتهم المقادير ؛ لأن البهائم لا يكون لها أمل.
قال تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) فهم لا يعلمون حقائق فسادهم وجهلهم بالله ، وبأوليائه بترهاتهم وطاعاتهم ، وما أفدوا من أيام الطاعات بالمخالفات عند معاينة العقوبة ووقوع الحسرة.
قال أبو عثمان : أسوأ الناس حالا من كان شغله ببطنه وفرجه وتنفيذ شهوته ، حينئذ لا يلحقه أنوار العصمة ، ولا يصل أبدا إلى مقام التوبة.
قال أبو سعيد القرشي : في هذه الاية من شغله تربية نفسه ، وطلب مرادها ، والتمتع بهذه الفانية عن الإقبال علينا ، فأعرض عنهم ولا تقبل عليهم ، وذرهم وما هم فيه ، فلم يصل إلينا إلا من كان لنا ، ولم يكن لسوانا عنده قدر ولا خطر.
قال سهل : أخبر الله عزوجل عن أخلاق الجهال أن همتهم الأكل والتمتع ، فأنساهم ذكر قرب الأجل ، ويعز عليهم ما يأملون من عيشهم على هذه الجملة ، فسوف يعلمون أن الذي لهم فيه هلاكهم ، وذلك الذي يبعدهم عن مدائح أهل السعادة ، فإن من أراد الله به الخير جعل همته فيما يقربه إليه من مقام على الطاعات ، واجتناب المخالفات ومحاسبة النفس ، ومن كان بهذه الحالة يلهيه ذلك عن الأكل والشرب والتمتع.
__________________
(١) اعلم أن (ربّ) مثقلة أو مخفّفة إذا دخلت على المضارع تكون للتقليل ، فقال المفسرون : معنى قلة ، وداوتهم أنهم كالسكارى من ورود الشدائد الكثيرة المتعاقبة ، فإذا صاروا إلى أنفسهم ، ورجعوا إلى عقولهم ، تمنوا ذلك ، وإلا كان من شأنهم أن يتمنوا ذلك في جميع أوقاتهم ، لا في بعض الأحيان.