الشياطين.
كما قال : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) ثم بيّن سبحانه أن تلك النفوس الأمّارة والشياطين الوسواسية تسترق من عالم سماء العقول والأرواح والأسرار والقلوب أسماع هواتف الغيب من صرف الخطاب والإلهام ؛ لتدع بكلمة الغيب الدعاوي الباطلة ؛ فأتبعها شهب طوارق القهريات ، وأحرق بنيران المحبة والأشواق ، ليصفّي هواء المعرفة من غبار الطبيعة بقوله : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ).
وأيضا فيه إشارة أخرى أنه تعالى يعز جوده وجده وجلاله ، جعل في سماء القلوب أبراج المقامات والحالات ، ويجري فيها سيارات الهمم لطلب وجدان أهله أنوار الصفة ، فترى كل همّة من برج كل مقام نورا من أنور الغيب ، وسر من أسرار الغيب ، حتى يستشرف على مطالع الربوبية والإلوهية في كل دورة أفلاك القلوب في هواء الهوية حين تبرز شموس أسرار الذات وأقمار الصفات وسيارات حقائق الأزل والأبد.
ألا ترى تقلب تلك الأفلاك في ممالك ملكوت الأزل ، كيف وصفها حبيب الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وعلى خلائه من الأنبياء والرسل والأصفياء بقوله : «القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء» (١).
ونظار تلك السماوات العقول القدسية والأسرار الملكوتية ، ترى من كل برج نور صفته ، فيورث تجليها لكل عقل مقام ، وشرفا وحالا ووجدا وعلما ومعرفة ، وبجلال قدمه يحفظ تلك السموات مع أبراجها من طوارق النفوس والوسواس ، فإذا قصدت النفس الأمّارة إلى حاشية من حواشي القلب يحترق بزفرة من زفرات القلب ، وكذلك الوسواس.
قال تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) وما ذكرنا من تلك الحقائق من أنوار تلك البروج يظهر من وجوه الصديقين ، وتلك الوجوه مطالع أنوار صفات الحق يبرز نورها من وجوههم وجباههم للناظرين من المريدين الصادقين والشائقين من المحبين ، وتلك سمات الحق لاعتبار الخلق وهدايتهم ، قال الله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ).
قال بعضهم : زيّن السماوات بالكواكب والبروج ، وجعل فيها علامات لمن يهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، وزين القلوب بإطلاعه عليها ، وأنواع الأنوار لتهتدي بتلك الأنوار إلى مقام المعرفة ، وهذه المعاملات إنما يهتدي بها من كان بصيرا مفتوحا عين فؤاده ينظر إليه نظر عيان.
__________________
(١) سبق تخريجه.