قال أبو بكر بن طاهر : كما جلّ الله في السماء بروجا يهتدوا به في ظلمات البر والبحر وزيّناها للناظرين ، كذلك جعل في القلوب بروجا يهتدي بها العارف إلى ربه ، فمن ذلك برج الخوف ، وبرج الرجاء ، وبرج التوكل ، وبرج التفويض ، وبرج التسليم ، وبرج اليقين ، وبرج المعرفة ، وبرج المحبة ، وكل برج من هذه الأبراج والبروج منها طريق إلى الله تبارك وتعالى ولا يعرفها إلا السالكون فيها والعالمون بها ، وكما زيّن تلك البروج للناظرين ، كذلك زيّن بروج القلب للناظرين لأنفسهم القائمين بأوامر الرب عليهم والعارفين حالهم ومحلهم في كل وقت وحين.
قال الأستاذ : في السماء بروج وهي لها زينة ، ثم تلك النجوم للشياطين رجوم ، إذا راموا إن يسترقوا السمع ، وفي القلب للمعارف والعقول نجوم ، ثم هي للشياطين رجوم ، فلو دنا إبليس وجنوده من قلب ولي من أوليائه أحرقته بل محقته نجوم عقله وأقمار علمه وشموس توحيده وكما أن نجوم السماء زينة للناظرين إذا لا حظوها ؛ فقلوب العارفين إذا نظر إليها ملائكة السماء لهم زينة ، ثم أن الله سبحانه وصف قدرته في مد الأرض وإلقائه فيها الرواسي بقوله : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) الإشارة فيه أنه تعالى بجلاله وقدره بسط قلوب الأولياء ببسط سعته وقدرته وعلمه ومدها بأنوار تجلي جماله وجلاله ، فصارت مبسوطة بوقوع نور مشاهدته عليها ؛ لأنها بلد الله ومقام زيارته ، هناك أشرقت الأرض بنور ربها ، فكلما يتجلى لها بسطها فانبسطت وزاد في امتدادها بقدر زيادة وقوع نور التجلي عليها ، فكلما ازداد نورها من الحق ازداد بسطها وامتدادها وهي مضطرة إلى زيادة بسطها وسعتها إلا أنها يوازي مشاهدة جلالة القدم الذي بلا نهاية ولا غاية ، فإذا يزيد بسطها وامتدادها إلى أبد الاباد ، وذلك لأن هناك عرش الرحمن وكرسيه ، وهنا لك ولاية الله ينزل عساكر تجليه عليها في جميع الأنفاس والأوقات ولم يكن موضع من العرش إلى الثرى بهذه الخاصية غير قلوب الأنبياء والأولياء.
لما روي سيد الأنبياء ـ عليه وعليهم سلام الله عن الله سبحانه ـ قال : «لم يسعني السماوات والأرض ، ويسعني قلب عبدي المؤمن» (١).
ولا يظن أن ذلك البسط أبسط صورة القلب ؛ لأن بسط القلوب بسط علومها وفهومها وعقولها ، وبسط نورها وقبولها أنوار قرب الله سبحانه التي اطلعت على فطرتها وأماكن غيبها ، وغيبها معادن علم الله ، وفي علم الله استغرقت الأكوان والحدثان ؛ فكل شيء من العرش إلى الثرى في تلك الأماكن من قلوب الصديقين أقل من خردله ، وكيف لا يكون
__________________
(١) سبق تخريجه.