فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أراد بذلك إيذاءهم ، وإلقاء نيران ضلاله إلى عباد الله ، وظن من جهله بالله أنه يسبق القدر المعلوم حتى لا يموت كما يموت الخلق ، فرد عليه الحق بقوله : (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي : تموت كما يموت الخلق بالنفخة الأولى ، وأراد الملعون أن يتشفى على آدم عليهالسلام وذريته بعد موتهم ، ويسخر منهم بما فيه من الحسد عليهم ؛ فألقى الله سبحانه رغام الحسرة على أنفه.
قال : فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ، ثم ذهب الملعون إلى طلب الحيلة في إغواء بني آدم ، وخرج بالجرأة في المخاطبة في الحضرة بما أخبر الحق عند قوله : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) ادعى الملعون اتصافه بصفة قهر المقدم ؛ حيث قال : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) وذلك دعوى الاتصاف بالقدرة في عالم القهر ، أي بما ألبستني من لباس قهرك وإغوائك إياي ، لأغوينهم لا بقدرة نفسي تكلم من التوحيد بغير اختياره ، وعلم أن اللطف من الحق سبحانه ورحمته سابقتان على قهره وغضبه ، فاستدرك واستثنى أهل اللطف والرضوان الذي اصطفاهم الله بولايته ، وطهر أسرارهم عن دنس الرياء والشرك بماء بحر إخلاصه وتوحيده.
فقال : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وبأنه رآهم خارجين من تحت أديان قهر القدم إلى ساحة كبرياء لطف الأبد ، وذلك ما قال عقيب الاية : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أي : أنهم ملتبسون بأنوار قدسي ، المجالسون معي في مجالس أنسي ، اخترتهم لنفسي ، وهم مواطن سري ، وهم سكان أماكن غيبي ، ألبستهم أنوار صفاتي ، وسنا بهاء ذاتي في بحار عبوديتي مستغرقة ، وقلوبهم في بحار شوقي ومحبتي مستغرقة ، وأرواحهم في هواء هويتي هائمة ، وأسرارهم في أودية أسراري تائهة ، أوتيهم بي إليّ من قهري ، تقدر أن تسلط عليهم ، وإن كان معك راية قهري ، وإنهم في ساحة لطفي معصومون من قهري ؛ فإن سلطنتك يكون على تبعك من الغاوين بإغوائي إياهم ، وقهري عليهم ، وافهم يا غافل أن الله وصف المخلصين من عبادي بأنهم معصومون من شر إبليس بنور إخلاصهم ، وذلك النور نور التوحيد ، ونور التوحيد من كشف نور الموحد ينكشف حين زند الملعون مقدحة الوسواس في صدورهم لوقوع نيران الرياء والشرك فيغلب نوره على ناره فيذهب النار ، وبقي فيهم النور ، وانقطع سلطنة الملعون عنهم ؛ لأنهم بعين رعاية الأزل محفوظون عن الخطرات.
قال رجل ليحيى بن معاذ : بماذا كرم الله عباده المخلصين؟ قال : بالإيمان بالغيب