مشربه من الصمدية ، وطعامه من المشاهدة ، بقوله : «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) ، وكان لا يراه أحد إلا سكن جوعه من تأثير صمدانيته ، ومن مشاهدة الربوبية والاتصاف بها ، صار متصرفا في مماليك الحق وعباده وبلاده.
ألا تري كيف أجابته الشجرة حتى أتت عنده من البعد ، وسترته لقضاء حاجته ، وكيف انشق القمر بإشارته ، وصار بذلك مسجودا للحجر والشجر ، فقد أعطاه الله أنوار هذه السبع المثاني من الصفات القدمية ، وزاد بأنه أعطاه القرآن العظيم الذي أخبره خير جميع أسمائه ، ونعوته ، وصفاته ، وما لم يصل إليه جميع الصفات ؛ لأن صفاته تعالى غير متناهية ، فعرفه القرآن أوصاف الذات والصفات جميعا ، وعظم القرآن من عظم متكلمه ، وهو بذاته تعالى تكلم بقرآن عظمته من حيث عظمة الذات وعظمته ، إن تحت كل حرف من حروفه بحرا من علوم الأزلية الأبدية ، وأيضا لكل صفة من صفاته ثاني من عينية الذات ، فالصفة ثاني الذات ، والذات ثاني الصفات ، ليس من جهة الافتراق والاجتماع هو واحد من جميع الوجوه ، وهو منزه عن كل تفرقة وجمع ، كأنه قال : أتيناك معاني الذات والصفات ، وجئت عرفتها بعد أن عرفك تعالى بجلاله وعزته ، أي : كسيناك نور ذاتنا وصفاتنا ، لذلك قال عليهالسلام : «من رآني فقد رأى الحق ، ومن عرفني ؛ فقد عرف الحق» (٢).
والقرآن العظيم علمك أنباء الربوبية ، وعرّفك حقائق الإلوهية ، وأعلمك علوم الغيبية وأحكام العبودية ، وأدق الإشارة أن السبع المثاني هي تلك الصفات القائمة ، وتأثيرها من جهة الاتصاف بها في قلب النبي صلىاللهعليهوسلم كأنه توانى بالسبع الصفات القائمة بالذات ؛ لأنه العالم والقادر والسميع والبصير والمتكلم والمريد والحي ، وهذه الصفات من النبي صلىاللهعليهوسلم مواليد تلك الصفات القائمة الأزلية المنزهة من العلة وتأثيرها.
ألا ترى إلى ما حكي عن الله عزوجل في حق المحبين ، قال الله : «إذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» (٣) ، ولذلك قال عليهالسلام : «خلق الله آدم على صورته» (٤) (٥).
ويمكن أنه تعالى قد أشار أيضا إلى صفته العامة وصفته الخاصة مثل المتشابهات ، أي : عرفناك صفتي الخاصة والعامة ، وعرفناك بالقرآن العظيم معاني الصفات العامة والخاصة فصرت عاشقا محبّا مشتاقا من رؤية الصفات الخاصة المتشابهة ؛ لأنها معدن الجمال والجلال ،
__________________
(١) سبق تخريجه.
(٢) رواه البخاري (٦٥٩٥) ، ومسلم (٢٢٦٧) ، وأحمد في مسنده (٣ / ٥٥) بنحوه.
(٣) رواه البخاري (٦١٣٧) ، وابن حبان (٢ / ٥٨) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (١٨ / ٣١٩).
(٤) رواه البخاري (٣١٤٨) ، وابن حبان (١٤ / ٣٣) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ٩٣).
(٥) هي الصورة الحقيقية المعنوية المدلول عليها بالصفات السبع المرتّبة.