قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) : عبدا من حيث العبودية ، ومحبّا من حيث المعرفة ، وعاشقا من حيث الحرية ، ومنفردا بالأنس من حيث الغيرة.
ألا ترى كيف قال : (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] : شكورا من حيث أن يرى المنعم بالمنعم لا بالنعمة بنعت العجز عن أداء حق نعمة جلاله وكشف جماله ، كأنّه تعالى علم نبيه عليهالسلام مقام معرفة أبيه نوح عليهالسلام كيف كان معرفته بالله ؛ حيث احتمل بلاءه به ، وشكر في موضع الصبر ، كأنّه علّمه الشكر في مقام البلاء ؛ لأنّ العارف لا يتم ؛ حتى يعرف الحق في رؤية البلاء ورؤية النعمة ، فيأخذ من مقام البلاء الصبر المقرون بالرضا ، ومن مقام النعمة الشكر المقرون بالصفاء والوفاء والسخاء والتّقى ، وإن كان متحليا بهاتين الحلتين صار مزينا بجميع زينة العبودية ؛ لذلك قال : (عَبْداً شَكُوراً) (١).
قال الجنيد في قوله : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) : العبودية هي : ترك هذين الشيئين : السكون إلى اللذة ، والاعتماد على الحركة ، فإذا فقد عنك هذان فقد أديت حق العبودية ، يستعظم قليل فضلنا عنده ، ويستصغر كثير خدمته لنا ، ليس له إلى غيرنا التفات ، ولا يشغله تواتر النعم عليه عن المنعم بحال.
وقال أيضا : قائلا بالحق ، ناطقا به ، قابلا له ، مقبلا عليه.
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠))
قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) : حكى الله سبحانه عن العباد بأنهم يعملون بالأعواض لحظّ نفوسهم ، لا لحقيقة العبودية التي وجبت عليهم في الأزل ، لحق الربوبية التي هي مستحقة لها ، فمن عمل للنجاة عمل لنفسه ، ومن عمل للثواب فقد عمل لنفسه ، ومن عمل لحظ المحبة وكذا الأنس فقد عمل لنفسه ، ومن عمل لغير هذه العلل وقام على شرط العبودية بنعت إسقاط رؤية الأعواض وكل علة على وصف الخجل والحياء والفناء فقد عمل لله ، ولكنّ أعماله راجعة إليه بسببين : أحدهما أن عبودية الخليقة لا تليق
__________________
(١) وفى التأويلات النجمية يشير إلى شكر داود الروح وسليمان القلب من آله السر والخفى والنفس والبدن فإن هؤلاء كلهم من مولدات الروح قال اعملوا ...