بالأزلية ، والاخر أنه منزّه عن عبودية الخلق وعصيانهم ؛ لأنّه قائم بنفسه ، ليس له أنس بطاعة المطيعين ، ولا وحشة بمعصية العاصين.
قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ٦] ، وفيه نكتة عجيبة ، أي : إن شاهدتم مشاهدتي شاهدتم لحظوظ أنفسكم لا لحق شهودي ، وإن شاهدتم مشاهدتي كما ينبغي وفنيت مشاهدتكم فنيتم في مشاهدتكم في مشاهدتي ؛ لأنّ سطوات العظمة مهلك كل شاهد من شهوده.
قال أبو سليمان الداراني : العمّال في الدنيا يعملون على وجوه ، كلّ فيه يطلب حظه ، فجاهل عمل على الغفلة ، وعامل عمل على العادة ، ومتوكل عمل على الفراغة ، وزاهد عمل على الحلاوة ، وخائف عمل على الرهبة ، وصديق عمل على المحبة ، وعمّال الله أقل من القليل.
قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) : ذكر الرجاء ، وقدّم الرحمة ، وتكلّم من نفس التربية ، كأنّه تعالى دعاهم إلى مقام الرجاء من مقام الخوف ، ومن رؤية الوحشة إلى رؤية تربية الربّ ، ومن رؤية العذاب إلى رؤية الرحمة ، أي : أنا أستعمل كرمي القديم على كل حال إن تطيعون وإن تعصون على عواقب الأمور ، لأنّ وصفي غالب على كل وصف ، وأنا غالب على أمري ، ثم أنبت الأكساب القائمة بالمشيئة بقوله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) : إن عدتم إلى عالم القهريات عدنا معكم ، فننجيكم منها ، فإنّ سوابق الكرم والرحمة غالبة على الغضب ، كما قال : «سبقت رحمتي غضبي» (١) ، وإن عدتم إلى عالم اللطف عدنا معكم إلى عالم اللطف ، فأريكم جلالي في لباس لطفي ، وإن عدتم إلى المعصية عدتم إلى معادلكم التي خليقتها الجهل والعصيان عدنا إلى ما كنّا في الأزل من اللطف والكرم ؛ لأنّ اللطف والكرم من نهارير القدم ، وإن عدتم إلى الهجران عدنا إلى الوصال ، وإن عدتم إلى المجاهدة عدنا إلى كشف المشاهدة ، وإن عدتم إلى النكرة عدنا إلى المعرفة.
قال ابن عطاء : يتعطّف عليكم ، فيخرجكم من ظلمات المعاصي إلى أنوار الطاعات ، فمن طلب الرحمة من غير الله فهو في طلبه مخطئ.
وقال سهل : إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغفرة ، وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم ، وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطرق عليكم ، لترجعوا إلينا.
وقال الورّاق : إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول.
قال الأستاذ : إن استقمتم في التوبة عدنا في إدامة الفضل والمثوبة.
__________________
(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٤٥) ، وأحمد (٢ / ٢٤٢).