قال بعضهم : الكتاب الذي يخرج إليك هو كتاب لسانك قلمه ، وريقك مداده وأعضاؤك ومفاصلك قرطاسه ، أنت كنت المملي على حفظتك ما زيد فيه ولا نقص منه ، ومتى أنكرت من ذلك شيئا يكون الشاهد فيه منك عليك ، قال الله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ).
وقال يحيى بن معاذ : اقرأ كتابك ؛ فإنك كنت المملي له.
وقال بعض السلف : محاسبة الأبرار في الدنيا ، ومحاسبة الفجّار في الاخرة.
قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) : إذا أراد الله سبحانه خراب الدنيا يأخذ أولياءه منها ، ويبقي أعداءه فيها ، فإذا ذهب منها الصدّيقون الذي يندفع العذاب بدعائهم وتدفع البلايا ببركاتهم يسقط عليهم بعد ذلك قوله الحق بالغضب وهلاكهم ، وأيضا إذا أراد الله أن يخرب قلب المريد سلّط عليه عساكر هوى نفسه ، وجنود شياطينه ؛ حتى يدوروا في أرض القلب ، ويخربوها بسنابك خيول الشهوات ، وآفات الطبيعيات والخطرات ، نعوذ بالله منها.
قال بعضهم : أهلكنا خيارها ، وأبقينا شرارها.
وقال أبو عثمان : إذا أخرج الله أمر المعاصي من القلوب فإنه يخاف على الخلق إذ ذاك الهلاك (١).
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ
__________________
(١) المراد من تدمير القرية : تدميرها ، وتدمير أهلها ؛ لأن تدميرهم تابع لتدميرها ؛ ألا ترى أن الله أمر جبريل بقلب قرى قوم لوط ، فقلّبها ، وهم فيها ؛ فهلك ، وهلكوا جميعا ، وكذا أصحاب القرية المذكورة في سورة يس ، وأطلق التدمير ؛ لكون كل منها مدمّرة مخصوصة حسبما اقتضتها أعمال أهلها ؛ كالطوفان بالنسبة إلى قوم نوح ، وكالقلب بالنسبة إلى قوم لوط ، وكالريح بالنسبة إلى قوم هود ، وخصّ المترفين : أي المنعّمين ؛ لأن الفقراء تبع لهم ، والناس على دين ملوكهم ، والسمك يتغيّر من الرأس كما هو المشهور ، فإذا عصى رؤساء القوم ؛ لا يبقى لهم ، ولأتباعهم حرمة أصلا على أن الأتباع إن كانوا عصاة أيضا ؛ فهم أسوة لهم في الهلاك ، والأسرى الهلاك إليهم بحكم الجوار ، وبحكم المداهنة ، أو السكوت عن الحق ، وفيه إشارة إلى قرية القالب ومترفوها هي : أشراف الأعضاء ، والقوى ؛ كالسمع والبصر ، والقلب ، فإن الجسد تابع لها ، فإن صلحت ؛ صلح الجسد ، وإن هلكت ؛ هلك ؛ وهذا هو الهلاك المعنوي ، والفساد الحقيقي.