رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠))
قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) : من مال إلى الدنيا أراد حظ الأدنى ؛ كأنّه استعجل لطلب العاجلة عن الاجلة من خسّة طبعه ودناءة همته ؛ وذلك من قلة معرفته بزوالها وبلائها والعذاب والحساب من أجلها ، فعجّل الله بعض مراده له في الدنيا لحرمانه عن الاخرة والدرجات العلى ، ولم يكن مظفرا بمراده أيضا من مأموله ؛ لأنّ الله سبحانه قال : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).
قال الواسطي : في ترك الدنيا مشاهدة الاخرة ، وفي مشاهدة الاخرة رفض الدنيا ، كما أن في مشاهدة التأييد زوال عزة النفس ، وفي مطالعة صفات الحق سقوط صفات العبد.
ثم وصف مريد الاخرة بعد تركه للدنيا ولذاتها بأن سعيه مشكور وعمله مبرور بقوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) ، فجعل ها هنا شرطين في إرادة الاخرة : شرط السعي ، وشرط الإيمان أي : ينبغي له أن يكون سعيه على نعت مشاهدة الاخرة ، ورؤية الغيب واليقين الصادق ؛ حتى يكون سعيه مقرونا برؤية ما وعد الله له من الدرجات الرفيعة والمقامات الشريفة ؛ حتى يكون عمله وسعيه على وصف حظ القلب والروح.
وأيضا معنى قوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) عارف بالله وبصفاته ، عالم بعمله لله ، لا يعمل إلا بالعلم ، ولا يسعى إلا بالشوق إلى الله وإلى جواره والبقاء في المشاهدة ، والسعي المشكور أن ينكشف لصاحبه مشاهدة الحق في سعيه نقدا في الدنيا ، فإنّ تأثير القبول ظهور أوائل الكرامات ، وبروز لطائف أنوار المشاهدات.
قال القاسم : شرط الإرادة بحسن السعاية ؛ لأنّ لكل طائفة إرادة الاخرة وسعيها ، وهو الذي يسعى على الاستقامة وما توجبه عليه الشريعة ، وشرط السعي بالاستقامة ، وشرط الاستقامة بالإيمان ؛ لأنّ كل من أراد الاخرة وقصد قصدها فليستقم عليها ، ربّ قاصد مستقيم في الظاهر خلعة الإيمان عارية عنده ، وكم من ساع حسن السعي غير مقبول فيه سعيه.
وقال بعضهم : السعي في الدنيا بالأبدان ، والسعي إلى الاخرة بالقلوب ، والسعي إلى الله بالهمم.
وقال أبو حفص : السعي المشكور ما لم يكن مشوبا برياء ولا سمعة ولا رؤية نفس ولا طلب ثواب ، بل يكون خالصا لوجهه لا يشاركه في ذلك شيء سواه ، فذلك السعي المشكور ،