بقيت على حال الفطرة إلا نادرا ، فإن الله سبحانه يخلق في الأحانين كافرا سخيا ومؤمنا بخيلا.
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) لوقوفكم مع صفات نفوسكم التي من لوازمها الشح الجبلي ؛ لكون إدراكها مقصورا على ما يدرك بالحس من الأمور المادية المحصورة ، واحتجابها عن البركات الغير المتناهية والرحمة الواسعة الغير المنقطعة التي لا تدرك إلا عند اكتحال البصيرة بنور الهداية ، فتخشى نفادها وانقطاعها.
قال حمدون : أخبر الله عن حقيقة طباع الخلق ، فقال : لو ملكتم ما أملكه من فنون الرحمة وخزائن الخير لغلب عليكم سوء طباعكم في الشح والبخل.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ) الايات التسع : ملاحة عينه ، وحسن وجهه ، وحل لسانه ، وشرح صدره ، وهيبته من الله قد علاه ، وانبساطه ، وغر بدنه ، واستجابة الدعوة بقوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) [يونس : ٨٨] ، والشريعة المجموعة.
وأيضا : فلق البحر ، وانقلاب عصاه ، ويده البيضاء ، ومقام التجلي ، وسماع كلام الصرف ، وغلبة الشوق عليه ، والمن والسلوى ، وانفجار الحجر بالماء ، وإحراق الذهب بالكيمياء.
قال جعفر رضي الله عنه : من الايات التي خصّه الله بها الاصطناع ، وإلقاء المحبة عليه ، والكلام والثبات في محل الخطاب ، والحفظ في اليم ، واليد البيضاء ، وعطاء الألواح.
وقال ابن عطاء : من الايات حمل قوة الخطاب في المشاهدة ، والمراجعة في طلب الرؤية ، وهذه من أعظم الايات.
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦))
قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي : بحق الربوبية على العبودية أنزلنا القرآن على قلوب الصدّيقين والمقربين ؛ ليعرفهم ذاتنا وصفاتنا الأزلية الأبدية ، ويدور أسرارهم في عالم الغيوب لترى أسرارنا ، وخزائن ملكنا ، وعجائب قدرتنا في جميع الذرات ؛ لأنّ القرآن مفاتيح الذات والصفات ، وخزائن الملك والملكوت ، وبحق العبودية نزل القرآن ليعرفهم منازلنا ومقاماتها من الصدق والإخلاص وجميع المعاملات ؛ لتسري على بحارها الأرواح القدسية ، والقلوب الروحانية ، والعقول الصافية ، والأبدان المقدسة ، لعرفان مكان الخضوع والفناء في الحق.
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) لأهله ، وحامله بحسن القبول واليقين والمعرفة