إيوائهم إلى كهوف وصاله ، وضلال جماله ، وحصون أنسه ، وقصور قدسه بذلوا مهجتهم لله بلا نصب لأنفسهم ، وطلبوه منه ، ودخلوا في مزار قربه ، ومساقط أنوار شهوده ، فلما استقاموا في منازل الأنس ، ومشاهدة القدس ورأوا محبوبهم بنعت الرعاية والكلاءة ، هيجهم نور البسط ، وسر الافتقار إلى سؤال زيادة القربات والمدانات.
(فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) معرفة كاملة وتوحيدا عزيزا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) من أمر محبتك (رُشْداً) صبابتك والوصول إلى وصال قدمك الذي بلا زوال ولا امتحان ، فهناك مقيل السعادة الكبرى ، ومراقد المشاهدة الكبرى.
قال الأستاذ : آواهم إلى كهف بظاهرهم ، وفي الباطن مهد مقيلهم في ظل إقباله وعنايته ، ثم أخذهم عنهم وقام عنهم فأجرى عليهم الأحوال ، وهم مصطلمون عن شواهدهم ، فلما عاينوا من الكشف الأكبر ، والرضوان الأعظم ، استطابوا الوقت ، وخافوا الفوت ، والتجئوا منه إليه ، فألطف عليهم الحق سبحانه ، فغيبهم عن الوجود ، وأخذهم بنفسه عن وجودهم بقوله : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) ذكر واحدا من الإحساس وجميعها مستغرقة في أنوار وطأة هيبة الجلال عليهم ، لما سترهم وضرب عليهم سرادق غيرته ، بقي عليهم حس الاذان ، فضرب على آذانهم ستر الغيرة ؛ حتى لا يحسوا أصوات الأغيار أدخلهم في قباب عصمته ، وأنّسهم بحسن مشاهدته ، وغيبهم عنهم فيه وزال عنهم رسوم البشرية ، فبقوا مع الحق بالحق ناظرا إلى الحق بلا فترة.
(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أي : أنمناهم نومه الغفلة عن عالمهم وكمالهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخفير ، ولا دعوى الداعي الخبير في كهف البدن (سِنِينَ) ذوات عدد أي : كثيرة أو معدودة أي : قليلة هي مدة انغماسهم في تدبير البدن وانغمارهم في بحر الطبيعة مشتغلين بها غافلين عما وراءها من عالمهم إلى أوان بلوغ الأشد الحقيقي ، والموت الإرادي والطبيعي ، كما قال : «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» (١).
وفيه نكتة لطيفة : لما رأوا الحق بهتوا في أنوار قدمه ، وفنوا في سطوت عظمته ، وذهبوا عن مقام سماع الخطاب لو بقي عليهم سماع الخطاب ، لم يستحكموا في مقام الخطاب على حد الرضا مقام الاستلذاذ والأنس والبسط والبقاء ، فأفناهم عنها لاستيفاء حظ التوحيد والفناء عنهم.
وأيضا : صارت أسماع الظاهر إلى سماع بواطنهم ، فسمعوا بأسماع القلوب والأرواح
__________________
(١) رواه البيهقي في الزهد الكبير (٢ / ٢٠٧).