(وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أغرقهم الحق سبحانه في بحار أوليته وأخرويته ، وقلبهم بنفسه ذات يمين الأزل ، وذات شمال الأبد ، قلبهم من رؤية الأفعال إلى أنوار الأسماء ، ومن أنوار الأسماء إلى أنوار النعوت والأوصاف ، ومنها إلى رؤية أنوار الذات قلبهم في كل نفس من عالم صفة إلى عالم صفة ، وهم معهم في سيرهم بين الصفتين ، فأدار بأرواحهم إلى صحارى الأزل ، وآزال الأزل ، وأدار بقلوبهم في بوادي الاباد ، وآباد الاباد.
وأدار بأنجم عقولهم في أفلاك حقائقه ، وأدار بأسرارهم في بساتين علوم غيبه المجهولة ، فقصر عليها بعد مزار أسفارهم بلطفه ، ولولا ذلك لبقوا في تقلب المقامات وسير الحالات ، ولكنه بلطفه وبرحمته خلصهم من التقلب في عالم الصفات ، ولو تركهم مع أنفسهم لم يبلغوا أمر الأزل إلى الأبد إلى رؤية صفة بعد رؤية صفة حملهم بنفسه ، وأدارهم في عالم صفاته ، ثم ألقاهم في بحر وحدانيته ، فصاروا مستغرقين في بحار ذات متخلصين من التقلب ، ذهب بهم سيول طوفان الكبرياء إلى قاموس البقاء ، فهناك قلبهم سر الأسرار تارة إلى نكرة القدم ، وتارة إلى معرفة البقاء.
قال ابن عطاء : نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والتفرقة جمعناهم عما تفرقوا فيه فحصلوا معنا في عين الجمع.
وقال بعضهم : نقلبهم بين حالتي الفناء ، والبقاء ، والكشف ، والاحتجاب ، والتجلي ، والاستتار.
قال ابن عطاء في قوله : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) مقيمون في حضرة كالنومى لا
__________________
عن الله تعالى يراهم متيقّظين ، ومن نظر إليهم من أهل المكاشفة والمشاهدة ؛ يراهم نائمين ، فإن الاعتبار بحال الباطن لا بحال الظاهر ، وإمّا إلى حال أهل اليقظة ، فإنهم لا إحساس لهم بما يتعلّق بعالم الملك ؛ لفنائهم عنه ، وبقائهم بالله ، والباقي بالله لا ينظر إلا إلى الله تعالى ، والجاهل المحجوب يظن أنهم منغمسون في الحسّ ، وأنهم مشتركون معه في ذلك ، وليس الأمر كذلك بل فرق كثير بين من حضر مع الحق في كل حاله ، وبين من غفل عنه في كل حاله ، أو في بعض حاله ، فمن حضر مع الحق ، يشمّ منه رائحة المسك في صورة الدّم كدم الشهداء ، ومن لم يكن كذلك ، كان صورته ومضاء دما ، فالاشتراك في الدموية لا يوجب أن يكون بينهما أصلا ؛ ولذا قالوا : إن رجال الله أكثر نكاحا من غيرهم لما أن الدم في عروقهم يستحيل نورا : أي يرجع إلى قوته ، والنور أقوى من الدم ؛ لأنه من عالم البقاء ، والدم من عالم الفناء ، فما بينهما كما بين الدنيا والاخرة ، فإذا عرفت هذا ؛ فاحذر أن تقيس أهل الله في أحوالهم على غيرهم ؛ فهو كقياس الغائب على الشاهد ، وذلك لا يصحّ جدّا ، وقد رأيت في عصري من هو خارج عن القياس بحيث لا يعرفه إلا رب الناس ، جعلنا الله وإياكم من المحققين بهم ، والقائمين بنحو مطالبهم ؛ إنه هو البرّ الرحيم ، والزم.