في عالم الملكوت والجبروت ، ثم أخبر سبحانه من سعة قدرته وكمال رحمته وجلال منته بأنه اختار من بين سباع البرية كلبا عارفا ، وجعله مستعدا لقبول المعرفة ممهدا لجريان أنوار محبته ، ومقبلا عليه مع أوليائه لديه بقوله : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) وضع قلب الروحاني الملكوتي في كلب ، وجعل قلبه خزائنه من خزائن معارفه ، وصندوقا من صناديق جواهر سر أسراره ، وحركه بسلاسل جذباته ، وحبس عنايته إلى مشاهدته قربة ، وعرّفه طرق الربوبية وسلوك العبودية ، فروحه كان روحانيّا ، وسره ربانيّا ، وشهوده رحمانيّا ، وألبسه ما ألبس القوم ؛ لذلك فرّ إلى الحق مع أوليائه من أماكن الحدثان ، ويا عاقل لا تنظر إلى صورة الكلب ، وغيره فإن محتمل الصفات حقائق فعله ، والكلب الغير من أفعاله ، والصفات والأفعال في معادنها منزه عن التفاضل ، بل إذا أضيف إلى الكون يفضل البعض على البعض من حيث العلم والحكمة ، وإذا كان سبحانه اختار أحدا من خلقه بمعرفته ومحبته بحسن عنايته الأزلية لا ينظر إلى سببه ، ولا إلى نسبه ، ولا إلى صورته ، ولا إلى رتبته بل يجري عليه بإرداته القديمة أحكام حسن عنايته فيصيره جواهر الافاق ، ويجعله لطائف الترياق ، ويرفعه إلى تمام الملكوت ، ويوصله إلى ميادين الجبروت.
قال الله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٥] ، فجعل الكلب معظم آياته لهم ؛ حيث أنطقه بمعرفته ، وكسا قلبه أسرار نوره ، وأبرز له أنوار هيبته ، فأضجع مقام الحرمة للرعاية بحسن الأدب بالوصيد ، وبين سبحانه رتبة الإنسانية ، وفضلها على الحيوانية بحيث أقامه بالوصيد ، وعلى سرادق الكبرياء ، ووصيد مجد الجلال ، وأدخلهم في فجوة الوصال سبحان المتفضل بالكمال.
قال أبو بكر الوراق : مجالسة الصالحين ومجاورتهم يؤثر على الخلق ، وإن لم يكونوا أجناسا ؛ ألا ترى الله كيف ذكر أصحاب الكهف فذكر كلبهم معهم لمجاورته إياهم!
ويقال : لما لزم الكلب محله ولم يجاوز حده فوضع يده على الوصيد بقي مع الأولياء كذا أدب الخدمة يوجب بقاء الوصلة ، ثم زاد سبحانه في وصفهم مما كساهم من أنوار الجلال ، وعظمته التي ترتعد من رؤيتها قلوب الصديقين ، وتقشعر من صولتها جلود المقربين ، وتفزع من حقائقها أرواح المرسلين بقوله : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً). إن الله سبحانه نبهنا ها هنا عن جلال قدر نبيه صلىاللهعليهوسلم بأنه تعالى ربّى روحه وعقله وقلبه وسره ونفسه في بدو الأول بنور حسن مشاهدته ، وأنوار مال وجهة خاصة بلا مطالعة العظمة والكبرياء ؛ لأنه كان مصطفى لمحبته مجتبى لحسن وصاله ودنو دنوه ، ولطائف قرب قربه ، وألبسه حلل حسن صفاته ، وطيبه بطيب أنسه ونشقه ورد قدسه ، وسقاه من بحر وداده