منهم ؛ لأن ما بدا عليهم منا.
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) يا مخاطب الانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية الحيوانية (وَهُمْ رُقُودٌ) بالحقيقة في سنة الغفل ، تراهم ينظرون إليك ، وهم لا يبصرون (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أي : نصرفهم إلى جهة الخير ، وطلب الفضيلة تارة وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى (وَكَلْبُهُمْ) أي : نفسهم (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) أي : ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية (بِالْوَصِيدِ) أي : بفناء البدن ، ولم يقل وكلبهم هاجع ؛ لأنها لم ترقد ، بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه والزراع الأيمن هو الغضب ؛ لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه ، والأيسر هو الشهوة لضعفها وخستها.
(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي : على حقائقهم المجردة وأحوالهم السنية ، وما أودع الله فيهم من النورية والسنا ، وما ألبسهم من العز والبهاء (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ) فارّا لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم ، أو لوليت منهم للفرار عنهم ، وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسية والأمور الطبيعية.
(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) من أحوالهم ورياضاتهم ؛ أو لو اطلعت عليهم بعد الوصل وإلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم ، وفررت من أحوالهم وملئت منهم رعبا ؛ لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه ، وأين الحدث من القدم وأنى يسع الوجود العدم.
ثم أخبر سبحانه عن ارتفاع أثقال العظمة عنهم ، وإفاقتهم عن سكر المشاهدة ، وحضورهم بعد الغيبة ، بقوله : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) فيه إشارة أنهم في بديهة وقائع الغيب ، وهم أهل البدايات في المعرفة ، وهجوم غلبات الوجدان ؛ لذلك هاموا في الغيب وطاشوا في القرب ، ولو كانوا في محل التمكين والصحو ما غابوا عن الإحساس ورسوم المعاملات ، ويكون حالهم كمال نبينا صلىاللهعليهوسلم حين دنا وثبت في التدلي ، واستقام في منازل الأعلى ، واستقر بين أنوار القدم والبقاء بنعت الصحو والصفا.
وقال : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ، ولو أن ما ورد عليه من أحكام الربوبية في المشاهدة ، ورد منه على جميع الأولين والاخرين لطاشت عقولهم ، وطارت
__________________
(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢).