(إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) إذ حاج سره إلى طلب الخنوع إلى الربوبية ، والفناء تحت العظمة ، والذهاب عن الذهاب في برجاء الهيبة في مقام المشاهدة ونجوى سره فناجى سر سره خفيّا عن سره ، ونادى سره خفيّا عن روحه ، ونادى روحه خفيّا عن عقله ، ونادى عقله خفيّا عن قلبه ، ونادى قلبه خفيّا عن نفسه ، ونادى نفسه خفيّا عن صورته ، ونادى لسانه بل جميع وجوده لسانا خفيّا عن غير ربه ؛ فمناجاته ونجواه أخفى عن كلّ خفي ؛ لأنه نادى ربه بريه ، وتلك المناداة ما وصف عليهالسلام بالخيرية والخاصية عن جميع العبادات والأذكار والأفكار بقوله : «خير الذكر الخفي» (١).
قال : عن عطاء : (نِداءً خَفِيًّا) أخفى نداءه من الخلق ، ومن نفسه ، وأظهر النداء لمن يجبيبه ، ويقدر على إجابته ، وفائدة إخفاء النداء من الخلق ، ومن النفس لئلا يدخله تلوين.
وقال بعضهم : خفي في الذكر عن الذكر ، ومن ذا قيل : إذا أذهلتك العظمة خرس قلبك ولسانك عن الذكر.
قال بعضهم : أخفى سؤاله عن نفسه ، وروحه فنداؤه لمن يقدر على إجابته وقضاء حاجته فسمع الحق نداءه ، ووهب له يحيى كما طلبه.
ثم وصف الله سبحانه عبده زكريا بأنه جعل نفسه في مقام العجز والتواضع في سؤاله عن ربه ، وهكذا حال السؤال على باب جبروت ذي الجلال ، وكان في دعائه موقنا ؛ لأن قلبه شاهد مقام استنشاق نفحة الإجابة لذلك قال : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).
قال ابن عطاء : قام مقام معتذر لما وجد في نفسه من فترة العبادة لكبر السن ، فسأل الله من يعينه على عبادة ربه ، وينوب عنه فيما عجز عنه من أنواع العبادة منابة ؛ فقال : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ، ورضاه لخدمتك ومستصلحة لعبادتك ثم إنه كان عليهالسلام رأى بعين سره روح ابنه في الملكوت طائرة في رياض الجبروت ؛ فسأل ما رأى فقال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) ناصرا صديقا نبيّا مرسلا ، يعرف حالي ، ويرث مقامي ، ويتخلق بخلق آبائي ، (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)) مرضيّا عندك بعد اتصافه بصفتك راضيّا عنك بعدما شاهد الرضوان الأكبر بنعت المتبري عن غيرك.
قال ابن عطاء : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥)) أي : ولدا نتخذه وليّا يرث مني النبوة ، ويرث من آل يعقوب الأخلاق ، وقيل : يرثني النبوة ، ويرث من آل يعقوب السخاوة
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (١ / ٧٢) ، وابن حبان في «صحيحه» (٣ / ٩١).