ثم إن الله سبحانه من شرف يحيى زكى روحه وقلبه وصورته بروح روح سلامه وخطابه بقوله : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)) سلام الأزلي على روحه حين خرجت من نور كافه ونونه الذين هما روحان من تجلي صفات الحق ، وذلك السلام سلامه تجلى جماله لروح يحيى في بدء أمرها ، فلما وصل بركة سلام الله مع نور جود وجوده إلى روحه ؛ أحاطت بها بنعت العصمة إلى يوم خروجها من صورة ؛ فلما كملت العصمة فيه جازاه الله بزيادة كشف جماله وخطابه معه وسلامه عليه حين انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء لئلا يكون له وحشة من خوف العاقبة ، فيبقى بين سلامين ، وبين مشاهدتين حتى يكون وقت العرض الأكبر ، فلما حان وقت وقوفه بين يديه يؤمنه بسلامه من العتاب ، ويفرحه بكشف النقاب ، ويؤويه إلى خير الماب ؛ فالسلام الأول تربية ، والسلام الثاني عصمة ، والسلام الثالث وصلة ومشاهدة.
قال أبو بكر بن طاهر : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) تحية ربه له ، وأمان له من كلّ محذور ، واتصال العصمة به إلى الممات ، وقوله : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) من ثنائه على نفسه أنطقه بلسانه ، وهو أغرب في العلم ، وأدق في اللطف.
وقال الواسطي : سلام في طرفي حياته مماته من جريان مخالفة عليه بقوله : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ).
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠))
قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦)) الإشارة الحقيقية ها هنا أن جوهر مريم جوهر فطرة القدس ، قرباه الحق بنور الأنس ففي جميع أنفاسها مجذوبة بنعت القرب والأنس إلى معدن الأنوار الإلهية ، فصارت كل وقت مراقبة لظهور شمس الجبروت من مشرق الملكوت ، فاعتزلت عن الأكوان بالهمة العالية المنعوتة بنور الغيب ، فأقبلت إلى مشارق شموس الذات والصفات ، واستنشقت نفحات الوصال من عالم الأزل ، فوصل إليها نفحة وصال الأزلية ، وأشرقت عليها شمس مشاهدة القدسية ، فلما شهدت مشاهدة مشرق تجلي الأزل برقت أنواره ، ووصلت أسراره إلى روحها فحملت