روحها بروح الغيب فصارت حاملة الكلمة الكبرى ونور الروح الأعلى فلما أعظم شانها بعكس جمال تجلي الأزل عليها استترت من الخليقة ، واستأنست بعروس الحقيقة ، وذلك قوله : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) فلما خلت بذلك النور والبرهان ، فبان لها نور صدر من تجلي الجلال والجمال ، ووصل بنور روحها بعد أن تمثل لها بصورة عيسى ، وذلك قوله سبحانه : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا).
إذا فرغنا من وصف القدس اللاهوت عن الناسوت ، وعجز الناسوت عن إدراك اللاهوت ، وتنزيه جلال الحق عن ممازجة الخلق ، وإفراد القدم عن الحدوث ، وعزة جماله وكبرياء أزليته عن المماثلة والمشابهة بقول : إن إرسال الحق روحه إليها أن ذلك الروح ظهور تجلى قدس الذات في نور الصفات ونور الصفات في لباس الأفعال على صورة حسنة مرغوبة ، إليها ميل كل روح بنعت الشوق إليها ، وذلك روح الفعل ، وروح الصفة ، وروح الذات في لباس نوره على قدر عقلها ؛ لذلك قال : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧)) وهذا عادة ظهور الحق في بداية عشق العاشقين ليجذب بها أرواحهم ، وقلوبهم إلى معدن تعريف الصفات والذات صرفا بعد انفراد الحقيقة عن الخليقة ، ومن ذلك قال عليهالسلام : «رأيت ربي في أحسن صورة» (١).
قال ابن عطاء في قوله : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) : نورا منا ألقيناه عليها ، وخصصناها به ؛ فأين الكون الذي فيه أثره ، فأخرج من ضياء نتائج ذلك النور عيسى روح الله صلوات الله عليه.
روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه : «إن ذلك البشر الممثل هو روح عيسى» (٢).
(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥))
قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) جعل الله عيسى مرآة نور مشاهدته ، ومشكاة نور صفاته لطلاب قربه ووصاله ، فتجلى منه لأبصار عرفائه ، وأهل خصائص محبته ،
__________________
(١) رواه الدارمي في سننه (٢ / ١٧٠) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (١ / ٣١٧).
(٢) رواه الحاكم في «المستدرك» (٢ / ٤٠٥) ، وذكره المناوي في «فيض القدير» (٤ / ٤٠٥).