وهذا رحمته على كل مريد من صعقه لا يبلغ سر روحه إلى القدم ؛ فيبصر جمال القدم في مرات الحدث ، وأي آية أحسن من هذه الاية ظهر الحق بعزته ، وقدسه عن التشبيه والتعطيل من وجه موسى وعيسى ومحمد ـ صلى الله عليهم وسلم ؛ لذلك أشار عليهالسلام بقوله : «جاء الله من سيناء ، ويستعلن بساعير ، وأشرق من جبال فاران» (١).
قال أبو بكر بن طاهر : في هذه الاية علامة دالة على تصحيح الربوبية ، ورحمة لمن آمن به ، ولم يدع فيه ما لم يدعيه لنفسه.
قوله تعالى حكاية عنها : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) تحيرت بين أمرين بين غيبتها عن رؤية سوابق التقدير في الأزل يكون عيسى آية الله في بلاد الله وعباده ، وبين حياتها في رؤية جلال الحق مما زعم الكفر حيث قالوا بألوهيتها وألوهية ابنها ، فأرادت أنها ما كانت ولم تكن ، وتكون فانية مضمحلة من حياء خالقها وعلمها بتنزيه جلاله ، وقدس جماله عن علة المخلوقات جميعا ، وممكن أنها قالت ذلك لمعارضتها جبريل بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ).
قال ابن عطاء : لما رأت قومها قد أثموا في أمرها رجعت باللائمة على نفسها ؛ فقالت : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا).
وقال بعضهم : يا ليتني مت قبل أن يظهر فيهم آفة أكون أنا سببها.
وقال جعفر : يا ليتني مت قبل أن أرى لقلبي متعلقا دون الله.
قال بعضهم : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) قبل أن يقال فيّ ما قيل من قولهم : ثالث ثلاثة.
وقال أبو بكر بن طاهر : أي : ليتني مت في أيام كفاية التوكل قبل أن رددت إلى عناء الطلب بقوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ).
قوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) خاطبها الحق سبحانه بعد غلبة الحزن على قلبها عند سماع أقوال المبطلين ليسلي قلبها بأنه منزه عن خطرات الأكوان ، وعلة الحدثان ، وأقوال الحرمان ، وألبسها لباس أنوار قدرته ، وجعلها عينا من عيون جمعه حتى عرفت مكانتها من جوهر القدس ، ومعدن روح القدس ، والكلمة القائمة بعزته ، فقالت الأعيان لها بأنها هزت نخلة يابسة ؛ فأسقطت عنها رطبا جنيّا.
وقال الواسطي : كانت يابسة لما حركت اهتزت واخضرت وأطلعت وسقطت.
فقال : كما أن الله تولى النخلة بما عاينت تولى عيسى في إظهاره من غير فحل.
قال ابن عطاء : لما كانت مجردة رزقت بغير حركة وكسب فلما تعلق قلبها بعيسى قال
__________________
(١) ذكره القرطبي في «التفسير» (٣ / ١٥٩).