عن ذلك ، فلم يعرف موسى في ذلك الوقت إشارة الحق ، فقال : معي عصاي ، ولو لقال : هي موضع آياتك ومسقط قدرتك ، وأيضا أظهر عجزه عند سرادق كبريائه بأنه أضاف الحدث إلى الحدث ، وعلم أن الحدث لا يليق إلا بالحدث ويمكن أنه رأى منها بعض الايات ؛ فذكر إنعام الله عليه في حضرته وزاد ذكر النعمة ، فقال : (أَتَوَكَّؤُا) عليها أي : أعتمد عليها بأنها آية من آياتك (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أستمتع بما أريد منها (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨)) ، وتلك المعجزة من ماربه فلما ارتهن من الحق بالوسائط.
قال سبحانه في غيرة الوحدانية : ألقاها جوابا لقوله : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) لئلا يسكن إلى غيره ، فلما ألقاها (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أي : موسى عصاه متقلبة بحية عظيمة مقبلة إلى موسى بالهيبة والصولة ففر منها موسى خيفة ، وذلك من غيرة الله عليه سبحانه لئلا ينظر إليها ، ولا يستأنس بها ؛ فإنها وسيلة منة إليه ، ومن بقي في رؤية الوسيلة احتجب عن رؤية الحقيقة ، ويا عاقل إن فرار موسى لا من الخوف من غير الحق إنما هو خاف من عظمته التي ظهرت من الحية ؛ لأنه تعالى تجلى بعظمته من الحية لموسى ، ومن يستقيم بإزاء مشاهدة عظمته القديمة فلما علم الحق أنه تبرأ من غيره (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ) أي : خذ عصاك ، ولا تخف من غيري.
قال : ما خفت منه ؛ فهو أنا لا غير.
قال فارس في قوله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) (١) سمع موسى كلاما لا يشبه كلام الخلق ، فلما سمع ذلك الكلام كاد يهيم ، فمرة أضاف العصا إلى نفسه ، ومرة أجاب عما لا يسأل كذلك الهيمان.
وقال : لما غلبت عليه لذعات الصفات وأراد الحق إلى المخلوق ليسكن ما به ؛ فقال : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) أشغله بالإجابة عما يملكه ، ولولا ذلك لتفسخ عنه ورود الخطاب عليه بغتة.
وقال أبو بكر بن طاهر في قوله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) ، وانبسط إليه في السؤال
__________________
(١) وأية نعمة أو مأرب أو منفعة تكون أعظم من أن تقول لي : وما تلك؟ ويقال قال الحقّ ـ بعد ما عدّد موسى وجوه الايات وصنوف انتفاعه بها ـ ولك يا موسى فيها أشياء أخرى أنت غافل عنها وهي انقلابها حية ، وفي ذلك لك معجزة وبرهان صدق.
ويقال جميع ما عدّد من المنافع في العصا كان من قبل الله ، فكيف له أن ينسبها ويضيفها إلى نفسه. تفسير القشيري (٤ / ٤٩٣).