قوله تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (١٠٨)) (١) أخبر الله سبحانه عن كشف العظمة والكبرياء والسلطنة للقدم ، فهناك مقام فناء الأرواح والأشباح بنعت الخمود والخشوع فلا حيلة لهم هناك للخروج من تحت غواشي ضباب العزة ؛ لأن الحوادث مضمحلة عند بروز أنوار سطوات الألوهية ، فإذا ذهب طوفان بحار العظمة ويطلع عليهم زبرقان (٢) الجمال من مشرق الجلال فيبقوا ببقائه ويفيقوا من صعقاتهم ويجيبوا الله ويسمعوا منه فالأول مقام الفناء والاخر مقام البقاء.
قال الواسطي : وهل كانت إلا خاشعة في الأول وهل يكون إلا خاشعة في الأبد فالاقتحام في حال الوجود بالتوثب والمنازعة ووقاحة الوجه ورعونة الطبع ؛ لأنها لم تكن وهي إذا كانت كأنها لم تكن.
وقال الجنيد : كيف لا تخشع وقد كشف الغطاء وأبدي الخفاء فلهيبة الموقف وحياء الجنايات خشعت أصواتهم وذلت رقابهم ثم أخبر عن ذهاب صولات العظمة وإقبال كشف الحال بقوله : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) من رضي الله عنه في الأزل واختاره باصطفائيته وحسن عنايته ، ورضي عن قوله في دعواه في الدنيا بمحبته ، ومعرفته مقرون بالصدق والإخلاص ، وله لسان الولاية بإذن الله ، يهب الله له بشفاعته ، ولو شفع لجميع الكفرة ، فإنه لا يرد مكان خاصية إرادته القديمة ، وهناك تبيين صدق الصادقين ودعوى المدعين.
قال الواسطي : لا تنفع الشفاعة إلا لمن لا ينسب إلى نفسه شيئا ، ولا يرى نعته فإذا عاين نعته نسى الأول ، وإذا ظهر عليه رضوانه ذهب ما دونه ، ثم أخبر عن كمال جلاله وعز قدمه وبقاء ديموميته التي تقاصرت الأوهام عن إدراكها وفنيت العقول عن الإشارة إليها بقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠)) كيف يحيط الحدث بالقدم والحدث فاني الوجود في كشف وجود الحق والفاني لا يدرك الباقي إلا بالباقي ، وإذا أدرك الباقي بالباقي لا يبلغ إلى ذرة من كمال الأزلية ؛ لأن الإحاطة بوجوده مستحيلة من كل الوجوه صفات وذاتا وسرا وحقيقة يا عارف كيف تدعي معرفة من لا تدركه معرفة كل عارف ، فإن معرفة كل عارف
__________________
(١) (وخشعت الأصوات) أي ارتخت وخفيت وخفضت لخشوع أهلها (للرحمن) أي الذي عمت نعمه ، فيرجى كرمه ، ويخشى نقمه (فلا) أي فيتسبب عن رخاوتها أنك (تسمع إلا همسا) أخفى ما يكون من الأصوات ، وقيل : أخفى شيء من أصوات الأقدام. نظم الدرر (٥ / ٢٦٩).
(٢) قالوا : سمّي الرجل زبرقان لجماله. وقالوا : زبرق ثوبه ، إذا صبغه بحمرة أو صفرة. والزّبرقان ، زعموا : القمر. جمهرة اللغة (٢ / ١٣٢).