قال تعالى : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) اشتهاؤهم في جمال الحق دوام المشاهدة بنعت الوصلة على السرمدية ، وهذا اشتهاء قلوبهم واشتهاء عقولهم كشف العلوم من معدن الصفات ، واشتهاء أرواحهم الاستغراق في بحار الذات ، واشتهاء أسرارهم الفناء بنعت البقاء ، والبقاء بنعت الفناء واشتهاء نفوسهم اللذة والحلاوة والخطاب والحسن والجمال والإدراك بنعت التحصيل من القدم في لباس الحسن.
قال ابن عطاء : للقلب شهوة ، وللأرواح شهوة ، وللنفوس شهوة ، وقد يجمع الله لهم في الجنة جميع ذلك ، فشهوة الأرواح القرب ، وشهوة القلوب المشاهدة ، والرؤية وشهوة النفوس الالتذاذ بالراحة.
قال الجنيد في قوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) : اجتازوا عليها ، ولم يحسوا بها وما عرفوها لصحة قصدهم إلى اللقاء ، وللنزول في دار البقاء.
وقال الصادق : كيف يسمعون حسيسها ، والنار تخمد لمطالعتهم وتتلاشى برؤيتهم ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ؛ فقد أطفأ نورك لهبي» (١).
قيل في قوله : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) : النفوس ثلاثة أشياء : أرواح وأشباح وقلوب ، فشهوة الروح الوصلة وشهوة القلوب اللقاء ، وشهوة النفوس الأكل والشرب والزينة ، وكل مبذول له بقدر همته وحظه يوصل إلى مناه ، وشهوته فيها خالدا مخلدا أبدا.
ثم وصف الله سبحانه جلال أهل قربه بحيث يحنيهم الملائكة السفرة الكرام البررة يدخلونهم حجال الوصال ، وشهودهم مشاهدة الجمال بقوله : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)) أي : هذا يوم الوصلة بلا فرقة ، وهذا يوم المؤانسة بلا وحشة ، وهذا يوم الراحة بلا محنة ، وهذا يوم العافية بلا بلية ، وهذا يوم كشف النقاب بلا حجاب ، وهذا يوم الخطاب بلا عتاب ، قيل : ميعاد أهل الجنة فيها الوصلة ، وميعاد أهل النار فيها القطيعة.
(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ
__________________
(١) رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (٩ / ٣٣٩) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (٢٢ / ٢٥٨) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١ / ٣٤٠).