(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١))
قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)) جعل الله عيسى وأمه مشكاتي أنوار قدسه ، ومرآتي تجلي جلاله وجماله لبصراء الصديقين ونظّار المقربين وآواهما إلى ربوة تلال مشاهد القدم ذات قرار لأسرار العارفين ومعين سواقي بحار الكرم التي شرباتها تحيى الأسرار من موت الفناء ، وتبلغها إلى حياة البقاء.
ثم خاطب روحه وكلمته باسم الجمع ؛ لأنه كان مجامع أخلاق جميع الأنبياء والرسل ، ويمكن أن هذا خطاب مع سيد الرسل محمد المصطفى صلىاللهعليهوسلم ، وهو أليق بذلك ؛ لأنه بحر الله ينشق منها أنهار الأنبياء والرسل.
ثم أمره بأكل الحلال بقوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) الإشارة إلى خوان دنا فتدلى ومشاهدة الأعلى بين كان قاب قوسين أو أدنى جلال مشاهدته ووصال جماله جلال للعارفين ، حيث لا يدخل فيه علة الحرمان ، ولا فيه مخائيل الشيطان ؛ فطلب منه بعد أكل موائد المشاهدة العمل الصالح ، وهو التبري من الحدثان ، وتلاشي النفس بنعت المعرفة في جمال الألوهية بقوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) فلما دنا من قرب القرب ، ووصل إلى سر السر فرد القدم عن علة الحدث بقوله صلىاللهعليهوسلم :
«لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) أكل عيسى من ربوة المشاهدة مائدة القربة ، فلما رأى سطوات الديمومية شملت وجوده أفنى نفسه لثبوت العمل الصالح
__________________
الإنساني ذلك الروح الإضافي ، وإن لم يكن حالا فيه ؛ بل متعلّقا به تعلّق التدبير والتصرف ؛ لكنه كان كالمنزل له ، وإنما كان مباركا ؛ لأن الروح إنما يترقّى إلى الكمالات ، ويضع القدم في المعراج ، والمصاعد بإعانة البدن له بمزاولة الأعمال الصالحة ، ولذلك كانت دوائرهم وبقاعهم من المنازل المباركة أيضا ، فمن وفّقه الله تعالى للنزول فيها ، والتردّد إليها غدوّا ورواحا ؛ كان عبدا مباركا نافعا للعالمين ، فطوبى لمن تشرّف بهذا الشرف العظيم ، وويل لمن وقع في الذّلّ والعذاب الأليم بدخول دويرات المبتدعة ، والفسقة الخارجة عن الصراط المستقيم. ومن المنازل العالية : القلب الإنساني ؛ لأن الواردات الإلهية تنزل فيها ، وله برزخية جميع الكمالات الإنسانية ، ومن دخله ؛ كان آمنا من برد الطبع ، وحرّ الشهوة ، سالما من آفات الشكوك والظنون ، متصفا بالصفات الإبراهيمية ، والمحمّدية ، وسائر الكمّل الندر.
(١) سبق تخريجه.