إن الله سبحانه امتحن الممتحنين بزينة الدنيا ولذاتها وجاهها ومالها وخيراتها ليقطعوا طرق الامتحان ، وحرموا إلى مشاهدة الرحمن فاستلذوها ، واحتجبوا بها ظنوا أنها مال جميع الراحات ، وأنهم مقبولون حين أعطوا هذه المقامات ، ولم يعلموا أنها استدراج لا منهاج ، قال الله تعالى : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)).
قال عبد العزيز المكي : من تزين بزينة فانية ؛ فتلك الزينة تكون وبالا عليه إلا من تزين بما يبقى من الطاعات والموافقات والمجاهدات ، فإن الأنفس فانية والأموال عوار ، والأولاد فتنة ، فمن يسارع في جمعها وحظها ، وتعلق القلب بها قطعه عن الخيرات أجمع ، وما عند الله بطاعة أفضل من مخالفة النفس ، والتقلل من الدنيا ، وقطع القلب عنها ؛ لأن المسارعة في الخيرات هو اجتناب الشرور ، وأول الشرور حب الدنيا ؛ لأنها مزرعة الشيطان فمن طلبها وعمرها ؛ فهو حراثه وعبده وشر من الشيطان من يقين الشيطان على عمارة دار ، وقال الله : (أَيَحْسَبُونَ).
ثم إن الله سبحانه وصف الصادقين بالخشية والخوف والإيمان والتوحيد واليقين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧)) الذين هم متعظمون عظمته وجلاله بعد كونهم معاينين رؤيته ومشاهدته خائفين من الهجران والاحتجاب بشيء من الحدثان ، ثم قال تعالى في وصفهم : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)) يوقنون أنها مشاهد مشاهدة قدسية وظهور صفاته وذاته.
ثم وصفهم بأنهم لا يؤثرون عليه شيئا من الحوادث بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩)) لا يلتفتون في طاعته إلى غيره ، ولا ينظرون منه إلى أنفسهم ، وحظها من الكونين.
ثم زاد في وصفهم بقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)) أي : الذين سافروا سفر العبودية بحقائقها ، وشاهدوا جمال الربوبية وأنوارها بنعت الخجل والوجل لعلمهم بأن ما أتوا من الطاعات وبذل المهج والموجودات في رؤية كبريائه وجلاله مع طاعات جميع المخلوقات أقل من ذرة ، ووجل قلوبهم من صوله تجلى العظمة لها قلوبهم في الغيوب جوالة وأرواحهم في الملكوت والجبروت طيّارة ، وأسرارهم في ميادين تجلي الصفات والذات فانية.