فكأن هو الذي أخذهم إلى نفسه ، لا هم بأنفسهم رجعوا إليه.
قال الأستاذ : إذا أشرفوا على العطب ، وقاربوا من التلف ، واستمكن اليأس من قلوبهم من النصر ، وظنّوا نفوسهم على أن يذوقوا إليهم اليأس ، أمطر عليهم سحاب الجود بالإجابة ، فيعود عود الحياة بعد يبسه طريّا ، ويرد ورد الأنس عقب ذبوله غضّا جليّا.
وقال في وصف الثلاثة لمّا صدق منهم الملجأ : سبق إليهم الشفاء ، وسقط عنهم البلاء ، وكذلك الحقّ يكون نهار اليسر على ليالي العسر ، ويطلع شموس المنّة على فخوس الفتنة ، ويله من تلك السعادة ، فيمحق تأثير طوارق النكادة سنّة منه سبحانه ، لا يبدّلها عادة في الكرم يجريها ، ولا يحولها ، ثم حثّ هؤلاء المخاطبين بالتوبة والمغفرة ، ونظر أنهم من المؤمنين ، بطلب زيادة المقامات والدرجات ، وحذّرهم من نفسه ، وطالبهم بالصدق في وفاء المعرفة ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) جعل الطريق على ثلاثة أقسام : الإيمان ، والتقوى ، والصدق ، وهي من أعمال القلوب ؛ لأنها تثبت حقائقها بكشف أنوار الغيوب ، ومن خصّ بالإيمان والتقوى والصدق ، يدرك بالإيمان مشاهدة أنوار حقائق الايات ، ويدرك بالتقوى مشاهدة أنوار الصفات ، ويدرك بنور الصدق مشاهدة أنوار الذات ، سمّاهم مؤمنين ، ودعاهم من مقام الإيمان إلى مقام التقوى ، وهو رؤية إجلاله ، والتبرّي من غيره ، ودعاهم من التقوى إلى مقام الصدق ، وهو مقام الاستقامة مع الله ، حيث لا يفر الصادق منه ببلائه ، وبيّن أن المؤمن مستعد لإدراك نور التقوى ، وإدراك نور الصدق ، ولو لا ذلك ما حثّهم على طلبها ، وخوّف المؤمنين عن مخالفة الصادقين ، أي اقبلوا يا أهل الإيمان ما يصدر من الصادقين من أحكام علوم المجهول الغريبة ، والبراهين العجيبة ؛ حتى تكونوا بالإيمان به معهم في مقام المشاهدة ؛ لذلك قال عليهالسلام «من أحبّ قوما فهو معهم» (١).
وقال بعضهم : (مَعَ الصَّادِقِينَ) مع المقيمين على منهاج الحقّ
قال بعضهم (الصَّادِقِينَ) الذين لم يخلفوا الميثاق الأول ، فأنها صدق الكلمة.
قال أبو بكر بن طاهر : مع من ضاقت نيّتهم عن طاعته ، وخلصت سرائرهم لمودة ما يرد عليهم.
(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ
__________________
(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٨٣) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣٢).