قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) : خاطب المدّعين الذين يظنّون أن الحقيقة تحصل بمجرّد الدعوى دون التحقّق بالمعنى بالتفريع عند حسابهم ومخاييلهم ، وعرّفهم أن من لم يكن باذلا لوجوده لله ، مخلصا في معرفته بنعت زوال عوارض البشرية ، والصدق في صحبته أهل الولاية ، فهو على غلط من حسبانه ، وفي سهو من حسابه ، وذلك تمام الاية بقوله : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) (١) ، ثم حذّرهم عن دعوى المحال ، وما في ضمائرهم من غبار الخيال ، بقوله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).
(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))
قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) : جمع الله سبحانه جملا من الخصال الحميدة من الفرائض والسنن ، والإيمان والمعرفة ، والثقة بوجوده فيمن يجوز له عبارة مجالس أنس العارفين والمحبّين والعابدين والمطمئنين والمراقبين.
وتلك العمارة تكون بخلوّ قلبه عمّا دون الله عند دخوله في مساجد الله ، وطهارة سرّه عن شواغل الطبيعة ، وغبار الوسوسة.
قال بعضهم : عمارة المسجد بعمارة القلب عند دخوله بصدق النيّة ، وحسن الطوية وطهارة الباطن لله ، كما طهرت ظاهرك بأمر الله ، ودخول المسجد بالخروج عن جميع الأشغال والموانع ، فذلك من عمارة المساجد.
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
__________________
(١) بطانة ، أي : جاهدوا وأفردوا محبتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولم يتخذوا من دونهم بطانة ، أي أصحاب سر يوالونهم ويبثون إليهم أسرارهم ، بل اكتفوا بمحبة الله ومودة رسول الله والمؤمنين ، دون موالاة من عاداهم. البحر المديد (٢ / ٣٨٨).