القهر ، ولا يهتدي من كان مرهونا بالأشياء عن خالق الأشياء ، وهذا معنى قوله : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ).
ثم بيّن أن البعد لا يقتضي إلا البعد ، وليس للعبد حدّ ، فأين يذهب البعيد في البعد ، ولا يجد في البعد إليه سبيلا.
قال تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) : أي : إلى من ترجعون إذا فات وصاله عنكم.
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))
وليس للحدثان مصرف الفرار ، فأنى أين وإنهم؟! إن هذه الاية إشارة سابق قوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : أي : من يرزق الأرواح من الملكوت غذاء قربه ووصاله ، ومن يرزق القلوب من ملكوت الأرض صفاء عبوديته ، (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) : من يملك إسماع العارفين بلذيذ جلاله ، ومن يملك أبصار الصديقين بكشف جماله والنظر إلى جلاله؟ ومن يخرج الحي من الميت؟ أي : من يخرج الأرواح العارفة الأحياء بحياته ومعرفة ذاته وصفاته من العدم بنور القدم ، ويخرج الميت من الحي ، من يخرج الأنفاس الفانية في عظمته الباقية من القلوب الحاضرة في مشاهد القربة ، ومن يدبر الأمر ، من يسهل قطع صفات مفاوز النكرات للعارفين ، ومن يعرف أمور العبودية والربوبية قلوب الموحدين؟!
ثمّ بيّن أن من شاهد هذه المراتب يعترف بها صدقا وعدلا بقوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) ، فإذا اعترفوا بذلك ، وصاروا شاهدين معاني شهوده لا خوّفهم من نفسه إلا أن يلتفتوا إلى سواه في طريق بقوله : (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : فلا تخافوا من فراقه ، (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) : أي : هو منعم هذه النعماء ، يربيكم بهذه السعادات لا غير ، فأين تصرفون منه إلى غيره؟
(فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) : أخصّ الإشارة فيه أي : إذا وقعتهم في أنوار معرفتي بعد كشوف صفاتي وذاتي لا تطلبوا كنه القدم ؛ فإنه معادن الملكوت ونكراتها بلا نهاية ؛ لأن القدم ممتنع عن إحاطة القلوب به ، وعن إدراك الأرواح والبصائر حقائقه