مُبِينٍ) (١) : بيّن أن ما صدر من العدم بنور القدم يكون بين علمه القديم وقدرته القائمة بذاته ، ونظره الشامل على وجود جميع الأشياء على حد صغرها وكبرها ، وأنها بجميعها معروفة في علمه عند بصره ، وكلها قائمة بذاته وصفاته ، وفي جميع الأوقات ينظر إلى كل ذرة بنظر الحفظ والرعاية ، ولو لا كمال عزة قدرته وإحاطته بعلمه القديم لتفتت ما بين عرصات الملكوت والجبروت ، وبهذه الاية يكمل خوف المراقبين وحذر الواجدين وإجلال العارفين وخشية الموحدين ورعاية الصادقين ومؤانسة الصديقين ومطالبة المريدين.
قال الشقيق : على العبد أن يلزم قلبه دوام نظر الله إليه وقربه منه ، وقدرته عليه ؛ لأن الله يقول : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً).
وقال بعضهم : من شهد شهود الحق إياه قطعه ذلك عن مشاهدة الأغيار أجمع.
قال النصر آبادي : شتّان بين من عمل على رؤية الثواب ، وبين من عمل على اتباع الأمر ، وبين من عمل على سبيل المشاهدة ، قال الله تعالى : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً).
وقد وقع لي إشارة لطيفة أن الله سبحانه بيّن التفاوت بين الأرواح والأشباح ، وبين أجرام الأكوان تفاوتا شريفا ، حيث أخبر تعالى أنه مع الأرواح والأشباح بأنوار شهوده وكشف وجوده واستغراقها في علمه بقوله : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) : خطاب الأرواح والأشباح وأجرام الأكوان معها بالعلم والقدرة والإحاطة بعلمه عليها ، فالله سبحانه مع العبد العارف بنعت القربة والمشاهدة ، والكون مستغرق في علمه عليها ، فالله سبحانه مع العبد العارف بنعت القربة والمشاهدة ، والكون مستغرق في علمه بقوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، وما أنت العارف لو شاهد مشهوده ليغيب عن الخوض في الأعمال ، بل يطير إليه بأجنحة الأحوال إذا انكشف جماله لمحبه لم يبق بين المحب والمحبوب واسطة الأعمال ، وإذا كان كذلك يسقط عنه أحزان الفوات ، وخوف الافات ؛ إذ هو في مشاهد الوصال ورؤية الجمال ؛ لقوله سبحانه في وصف المشاهدين جماله المستأنسين وصاله الخارجين عن مكائد القهريات ونوائب العقوبات : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : العارف الصادق
__________________
(١) هذه الاية وأمثالها هي أصل المراقبة عند القوم ، وهي على ثلاثة أقسام : مراقبة الظواهر ، ومراقبة القلوب ، ومراقبة السرائر ، فالأولى للعوام ، والثانية للخواص ، والثالثة لخواص الخواص ، فأما مراقبة الظواهر : فهي اعتقاد العبد أن الله يراه ، ومطلع عليه في كل مكان ، فينتج له الحياء من الله ، فيستحيي أن يسيء الأدب معه وهو بين يديه. البحر المديد (٣ / ١).