إذا كوشفت له أنوار جمال الذات استأنس بها ، وفرح بمواصلتها على الدوام ، ثم دخل في نور البسط ، وغلبت عليه الطمأنينة والرجاء.
ثم يدخل في سماع الانبساط من روح الوصال ، فيغلب عليه النشاط والاستبشار ، وذلك مقام لا يدخل فيه وجل القلوب من سطوات العظمة ، ولا اضطراب الأرواح من أنوار الهيبة ، ولا فناء الأسرار من قهر سلطان الأولية ، ولا اضمحلال الوجود من قوارع العزة ؛ لأن الولي العارف إذا كان في رؤية هذه الصفات تكون أسراره في أسفار الازال والاباد ، ويكون هناك على خطر الفناء من غيرة القهريات ، ألا ترى إلى قوله عليهالسلام : «المخلصون على خطر عظيم» (١) ، فإذا سكنت أسرار عن تلك الأصغار وكملت الحق في الحق وتمكنت بالله في الله وتوطأت في مواطن أنوار الجمال لا يجري بعد ذلك عليه طوارقات الامتحان ، ألا ترى إلى المؤمن في الجنان لا يجري عليه آفات العذاب وصور الخوف والحزن ؛ لأنه في جنان الظاهر وموضع الروح والريحان ، فالعارف الولي أيضا إذا بلغ إلى جنان جمال مشاهدة الله يكون محروسا برعاية لطفه عن طوارق قهره أمنا به عنه ؛ لذلك قال : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، فقوله تعالى : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من مكر السابق في الأزل ؛ فإنهم أصحاب العنايات في سوابق علم القدم ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من مستقبل عارض القهر ؛ لأنهم أصحاب الكفايات إلى الأبد ، وكيف يخاف من ينظر إلى جماله ، وكيف يحزن من يكون في سنا جلاله ، ولا تتم الولاية إلا بأربعة : المقام الأول : مقام المحبة ، والثاني : مقام الشوق ، والثالث : مقام العشق ، والرابع : مقام المعرفة ، لا تكون المحبة إلا بكشف الجمال ، ولا يكون الشوق إلا باستنشاق نسيم الوصال ، ولا يكون العشق إلا بدنو الدنو ، ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة ، وأصل الصحبة وكشف الألوهية القديمة مع ظهور أنوار الصفات جميعا ، فإذا رأى أنوار الصفات وصرف النعوت والأسماء ومشارب الصفات وعرف بها الذات سبحانه ويخرج من درك الفناء فيها بنعت البقاء فيكون وليّا ، فيورث محبته الطاعة ، ويورث شوقه الحالة ، ويورث عشقه بذل الوجود ، ويورث معرفته الخلو مما سواه ، فيتورث بطاعة الفراسات ، وتورث الحالة اللطافة والظرافة ، ويورث بذل الوجود الكرامات ، ويورث الخلو مما سواه الهيبة والوقار ، فإذا كان كذلك بما وصفنا تكون الاية لله في بلاد الله شمائله البشارة والسخاوة وأخلاقه الصحبة والنصيحة ، يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويحفظ حدود الله على عباد الله ، طوبى لمن رآه ، طوبى لمن صحبه ، وآثر خدمته.
__________________
(١) رواه البيهقي في الشعب (٥ / ٣٤٥).