(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨))
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) جمع أمانة وقرئ بها (١) ، وهي كل ما يؤتمن عليه كأموال وأسرار (وَعَهْدِهِمْ) وهو المعاهد عليه من جهة الله أو من جهة الخلق (راعُونَ) [٨] أي حافظون من الخيانة وبالوفاء ، قيل : الراعي هو القائم على الشيء بحفظ وإصلاح (٢) ، وأمانة السر أولى بالحفظ.
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩))
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ) وقرئ بالجمع (٣)(يُحافِظُونَ) [٩] أي يداومون برعاية أوقاتها وباتمامها من غير سهو عنها ، والمراد من الصلوة : هو المفروضة والنوافل الراتبة وأصحابها الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وكررت لأنها أعظم العبادات بعد الإيمان.
(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))
ثم بين ثوابهم فقال (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) [١٠] أي (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) أي منازل الكفار من الجنة ، لأن لكل واحد من المؤمن والكافر منزلين ، منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالمؤمن يرث منزل الكافر من الجنة والكافر يرث منزل المؤمن من النار ، و (الْفِرْدَوْسَ) هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر بناؤه لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر ، قيل : لم يكن أحد من أهل الجنة إلا وله نصيب في الفردوس (٤) ، لأن فيه بساتين كثيرة وأشجارا كثيرة عليها حيطان (هُمْ فِيها) أي في الفردوس ، وأنثه بتأويل الجنة (خالِدُونَ) [١١] لا يخرجون عنها.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢))
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي آدم (مِنْ سُلالَةٍ) أي خلاصة سلت (مِنْ) لابتداء الغاية ، أي أخذت من بين الكدر من جميع الأرض ، فقوله (مِنْ طِينٍ) [١٢] بيان ل (سُلالَةٍ) ، والسلالة : الماء الذي انسل من بين الأصابع إذا عصر الطين ، وقيل : «الإنسان ابن آدم ، لأنه من نطفة سلت من طين ، والطين هو آدم» (٥) ، فقوله (مِنْ طِينٍ) صفة ل (سُلالَةٍ) و (مِنْ) للابتداء.
(ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣))
(ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي ابن آدم (نُطْفَةً) يعني جعل الله جوهر الإنسان أولا طينا ثم جعل جوهره نطفة (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [١٣] أي في مستقر مكنت فيه هي وهو الرحم ، أي أحرزت.
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤))
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي حولناها قطعة دم (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي حولناها مضغة لحم (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ف «خلقنا» هنا بمعنى صيرنا ، ولذلك عدي إلى مفعولين ، واتيان الفاء في المواضع الثلاثة لكون الأول سببا للثاني فيترتب ترتب السبب على المسبب ، فأفاد معنى التعقيب فيها (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي حيوانا بنفخ الروح فيه بعد الجماد وناطقا بعد البكم وسميعا بعد الصمم وبصيرا بعد كونه أكمه (فَتَبارَكَ اللهُ) أي تعاظم وتعالى عن الشريك (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [١٤] أحسن المقدرين تقديرا وتفصيلا ، والمراد
__________________
(١) «لأماناتهم» : قرأ المكي بغير ألف بعد النون على الإفراد ، والباقون بالألف على الجمع. البدور الزاهرة ، ٢١٧.
(٢) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٩٥.
(٣) «صلواتهم» : قرأ الأخوان وخلف بغير واو بعد اللام على التوحيد ، وغيرهم بواو بعدها على الجمع. البدور الزاهرة ، ٢١٧.
(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.
(٥) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٠٩.