تفصيل خلق الإنسان وترك ذكر المميز وهو تقدير لدلالة الخالقين عليه ، وهو تمييز أفعل التفضيل لا تأكيد ، لأنه ينصب اسما منكرا على التمييز خاصة ، و (أَحْسَنُ) بدل من (اللهُ) وليس بصفة ، لأنه نكرة وإن أضيف ، لأن المضاف إليه عوض من كلمة «من» ، روي : «أن عبد الله بن أبي السرح كاتب رسول الله صلىاللهعليهوسلم تكلم بذلك قبل إملائه ، فقال له رسول الله عليه وسلم : اكتبه هكذا أنزلت ، فقال عبد الله إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فلحق بمكة مرتدا ، ثم أسلم بعد الفتح» (١) ، وقيل : هذه الرواية غير صحيحة لأن هذه الاية مكية وارتداده كان بالمدينة (٢).
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد تمام خلقكم (لَمَيِّتُونَ) [١٥] أي تموتون عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [١٦] أي تحيون بعد الموت فلا تكونوا منكرين بذلك كما لا تنكرون ابتداء خلقكم وذكر الحيوتين لا ينفي الثالثة وهي حيوة القبر.
(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧))
(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) هذا ذكر قدرة خلق هو أعظم من خلقهم ليستدلوا به أنه قادر على بعثهم بعد الموت ، أي خلقنا سبع سموات مع ما فيها من النيرات التي تطلع وتغرب ، وسميت «طرائق» لتطارق بعضها فوق بعض ، وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة كطارقة النعل أو هي طرق الملائكة أو الكواكب ، لأن سيرها فيها ، قيل : «كل سماء غلظها مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء كذلك» (٣)(وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) [١٧] أي لا نغفل عن خلق السموات وحفظهن من أن يقع عليهم أو الخلق الناس ، أي إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الارزاق وما ينفعهم من أنواع المنافع.
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨))
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بتقدير ووزن يأمنون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة ، أي بمقدار يكفيهم في مصالحهم ومعاشهم ، قيل : «ليست سنة بأمطر من سنة ولكن الله يصرفه حيث يشاء» (٤)(فَأَسْكَنَّاهُ) أي فأدخلنا ذلك الماء (فِي الْأَرْضِ) فأخرجنا منه ينابيع ، قيل : منه الغدران والركايا (٥) وكل ماء في الأرض من السماء (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) أي على إزالته (لَقادِرُونَ) [١٨] بأن يغور في الأرض فلا يقدر عليه فيموتون مع دوابهم عطشا فيجب عليهم أن يستعظموا نعمة الماء بشكر منعمه دائما ويخافوا بغارها إذا لم يشكروه عليها.
(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩))
(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) أي بالماء (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي أنواعها سوى النخيلة والأعناب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [١٩].
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠))
قوله (وَشَجَرَةً) نصب عطف على (جَنَّاتٍ (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) بكسر السين وفتحها (٦) ، هو جبل فلسطين أو جبل بين مصر وأيلة ، ومنه نودي موسى ، وأضيف طور إلى بقعة تسمى بسيناء وبسينين وتلك الشجرة شجرة الزيتون ، وخص الأنواع الثلاثة النخل والعنب والزيتون بالذكر ، لأنها أكثر الأشجار نفعا عندهم (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) بضم التاء وكسر الباء من الإنبات ، فالباء زائدة فيه ليدل على ملازمة الإنبات للدهن ،
__________________
(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤١٠.
(٢) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٤١٠.
(٣) عن مقاتل والكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤١٠.
(٤) عن ابن مسعود ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤١١.
(٥) قد أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٤١١.
(٦) «سيناء» : كسر السين المدنيان والمكي والبصري ، وفتحها سواهم. البدور الزاهرة ، ٢١٨.