(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١))
قوله (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) نزل في شأن قذفة عائشة رضي الله عنها بصفوان (١) ، الإفك الافتراء ، والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وهي خبر (إِنَّ) و (مِنْكُمْ) صفته (لا تَحْسَبُوهُ) أي الإفك أيها المقذوفون (شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) بأن تثابوا (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي من الآفكين وهم عبد الله بن أبي وزيد بن رفاعة ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي العقوبة بقدر ما شرع فيه ، لأن بعضهم تكلم بالإفك وبعضهم ضحك وبعضهم سكت ولم ينههم (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي كبر الإفك والكبر بكسر الكاف وضمتها معظم الشيء (٢) ، أي الذي تحمل معظم الإفك (مِنْهُمْ) أي الآفكين وهو حسان أو ابن أبي (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) [١١] أما حسان فعمى بعد ذلك وأما ابن أبي فمات منافقا ، وكان رأس النفاق.
(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢))
(لَوْ لا) أي هلا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي الإفك وهو قذف عائشة رضي الله عنها بصفوان ظننتم كما (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ) أي بأمهاتهم وأهل دينهم (خَيْراً) لأنهم كنفس واحدة ، يعني هلا ظننتم كظنهم وقلتم كقولهم ، فيه التفات ، والأصل أن يقال ظننتم بأنفسكم الخطاب ، وإنما عدل عنه ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات ويشير به إلى أن الإيمان يقتضي ذلك ، فاذا سمع مؤمن أو مؤمنة قالة في حق أخيه أو أخته يبني الأمر فيها على ظنه به الخير كما هو شأن المومنين (وَقالُوا) بملء الفم (هذا) أي هذا القذف (إِفْكٌ مُبِينٌ) [١٢] أي ظاهر.
(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣))
ثم بين الحكم في القذف فقال (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ) بلفظ الماضي والمراد المستقبل ، أي هلا يجيئون على القذف (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) [١٣] في قولهم ، يعني اطلبوا منهم أربعة شهداء ، فان لم يأتوا بها فأقيموا عليهم الحد على ما بيناه.
(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤))
(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أيها الكاذبون بالإمهال لأن تتوبوا (وَرَحْمَتُهُ) بأن يترحم عليكم (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ) أي خضتم (فِيهِ) من حديث الإفك (عَذابٌ عَظِيمٌ) [١٤] أي دائم في الآخرة (وَلَوْ لا) هذه هي الامتناعية ، والأولى بمعنى «هلا».
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦))
قوله (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) ظرف ل (أَفَضْتُمْ) بأو لمسكم ، أي إذ يأخذ الإفك بعضكم من بعض (بِأَلْسِنَتِكُمْ) برواية البعض عن البعض (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ومعنى (بِأَفْواهِكُمْ) مع أن القول لا يكون إلا بالفم هو أن المعلوم من الشيء يكون علمه في القلب أولا ، ثم يجري على اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولا
__________________
(١) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ١٧٦ ـ ١٧٧ ؛ والكشاف ، ٤ / ١١٧.
(٢) «كبره» : ضم الكاف يعقوب وكسرها غيره ورقق الراء ورش. البدور الزاهرة ، ٢٢٢.