أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) [١٧] أي عن السبيل بحذف الجار ، يعني هم بأنفسهم أخطأوا الطريق المستقيم ، وفائدة هذا السؤال بعد سبق علمه فالمسؤل عنه أن يجيبوا بما أجابوا تبكيتا لعابديهم بتكذيبهم إياهم حيث (قالُوا) أي قال الملائكة والأنبياء وغيرهم من العقلاء متبرين منهم (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي) أي ما يجوز (لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ) قوله (مِنْ أَوْلِياءَ) مفعول أول للاتخاذ بزيادة (مِنْ) لتأكيد النفي ، و (مِنْ دُونِكَ) مفعول ثان ، فنزهوا الله تعالى وأنفسهم عن عبادة غيره (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ) أي أجلتهم بالتمتيع في الدنيا (وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي القرآن والإيمان به (وَكانُوا) أي صاروا (قَوْماً بُوراً) [١٨] أي هلكى ، جمع بائر من البور الهلاك.
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩))
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) أي معبودوكم من الملائكة وغيرهم أيها المشركون (بِما تَقُولُونَ) أي بقولكم إنهم آلهة (فَما تَسْتَطِيعُونَ) بالياء غيبة ، أي الكفار ، وبالتاء للخطاب (١) ، أي لا تستطيعون أنتم ولا معبودوكم (صَرْفاً) للعذاب عنكم (وَلا) تستطيعون (نَصْراً) من العذاب فظهر عجز كلكم عن جلب نفع و (٢) دفع ضر (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) أي من يكذب منكم محمدا والقرآن الذي أنزل إليه (نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) [١٩] وهو عذاب النار ، والخطاب عام ، إذ العذاب الكبير لاحق بكل من ظلم ، والشرك ظلم لقوله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(٣).
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))
قوله (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) بكسر «إن» لأجل اللام في الخبر ، وقرئ بالفتح على زيادة اللام (٤) ، والجملة صفة لموصوف محذوف ، المعنى : وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين الطعام وماشين في الأسواق ، وجاز حذفه اكتفاء بقوله (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، وقيل : الجملة حال ، تقديره : إلا وهم يأكلون (٥) ، نزل حين أنكروا على النبي عليهالسلام أكله الطعام ومشيه في الأسواق (٦) ، قوله (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي محنة واختبارا تصبير لرسول صلىاللهعليهوسلم على ما قالوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق ، أي جرت عادتي وحكمتي على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض وطلب الصبر الجميل منكم على الأذى والعداوة والأقوال الشنيعة من أعدائكم كما قال المستهزؤون من قريش انظروا أتباع محمد موالينا وأراذلنا فكيف نؤمن به ونتبعه معهم ، فقال تعالى للمؤمنين (أَتَصْبِرُونَ) على البلاء وهو في معنى الأمر ، أي اصبروا فاني ابتليت بعضكم ببعض ، الفقير بالغني والوضيع بالشريف (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) [٢٠] فيجازي كلا بعمله فلا يضيق صدرك ولا يستخلفنك أقاويلهم ، فان في صبرك عليها سعادتك في الدارين.
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١))
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ) أي لا يأملون (لِقاءَنا) بالخير أو لا يخافون لقاءنا بالشر ، وهم كفار مكة (لَوْ لا) أي هلا (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فتخبرنا بأن محمدا صادق حتى نصدقه (أَوْ نَرى رَبَّنا) جهرة فيأمرنا بتصديقه واتباعه فقال تعالى (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) بالكفر والعناد ، أي باضماره في قلوبهم مع اعتقاده (وَعَتَوْا) أي تجاوزوا الحد في الظلم (عُتُوًّا كَبِيراً) [٢١] أي بالغين أقصى العتو ، واللام فيه جواب قسم محذوف.
__________________
(١) «تستطيعون» : قرأ حفص بتاء الخطاب ، وغيره بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٢٢٦.
(٢) لا ، + ح ي.
(٣) لقمان (٣١) ، ١٣.
(٤) نقل المؤلف هذه القراءة عن القرطبي ، ١٣ / ١٣.
(٥) وهذا الرأي مأخوذ عن البيضاوي ، ٢ / ١٣٨.
(٦) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٢٧٨ ؛ والبغوي ، ٤ / ٢٣٠.