رَحْمَتِهِ) أي قدام المطر (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [٤٨] أي بليغا في طهارته ، لأنه مطهر لغيره بعد كونه طاهرا في نفسه ، وذكر الطهور لإكرام الأناسي وتتميم المنة عليهم بسقيهم منه ويزيل اسم الطهور عن الماء تيقن مخالطة النجاسة أو غلبة ظنها أو استعماله في البدن لأداء عبادة ، وعلل إنزاله بقوله (لِنُحْيِيَ بِهِ) أي بالماء (بَلْدَةً) أي بلدا (مَيْتاً) كقوله (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ)(١) ، أي قفر لا نبات فيه (وَنُسْقِيَهُ) أي الماء (مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً) مفعول (نُسْقِيَهُ) و (مِمَّا خَلَقْنا) حال من (أَنْعاماً) ، وذكر الأنعام من بين الحيوان الشارب لكونها قنية الأناسي في الانتفاع بها وكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم بالسقي (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) [٤٩] جمع إنسان ، أصله أناسين فأبدلت النون ياء وأدغمت الياء فيها ، وقدمت الأرض على الأنعام والأناسي لأن حيوة الأرض سبب لحيوتهما ، ووصف الأناسي بالكثرة لأن عيش أكثرهم بما ينزل الله عليهم من السماء من الماء وللقليل منهم غنية عنه لمنابع الماء والأنهار الجارية.
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠))
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) أي فرقنا المطر (بَيْنَهُمْ) في البلدان المتفرقة والأزمان المختلفة ، قيل : «ما عام أمطر من عام ولكن الله يصرفه في الأرض» (٢) أو معنى «التصريف» أنه صرف ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر في القرآن وفي سائر الكتب (لِيَذَّكَّرُوا) أي ليتفكروا ويعرفوا حق نعمته عليهم فيشكروا (فَأَبى) أي امتنع من التوحيد (أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [٥٠] أي جحودا للنعمة وهو قولهم مطرنا بنوء كذا ، والنوء النجم ، ولا يذكرون صنع الله ورحمته.
(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١))
(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) في زمانك (نَذِيراً) [٥١] أي رسولا ولكن بعثناك رسولا إلى كل القرى اختصاصا لك بالرسالة.
(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢))
(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يريدونك من ترك الإبلاغ لأنهم يجتهدون في توهين أمرك ، فقابلهم باجتهادك بما تغلبهم به (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي بالقرآن (جِهاداً كَبِيراً) [٥٢] أي شديدا تعلوهم.
(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣))
(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) المرج الخلط ، أي أرسلهما وخلاهما متجاورين متلاصقين في مجاريهما ، والله تعالى يفصل بينهما بقدرته ويمنعهما التمارج (هذا) أي أحدهما (عَذْبٌ فُراتٌ) أي شديد العذوبة (وَهذا) أي الآخر (مِلْحٌ أُجاجٌ) أي شديد الملوحة ، والمراد بهما بحرا فارس والروم (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) أي حاجزا وكل برزخ حاجز لئلا يختلط أحدهما بالآخر وأن لا يتغير طعمهما (وَحِجْراً مَحْجُوراً) [٥٣] أي كلمة استعاذة يقولها المتعوذ وقد وقعت هنا على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ، ويقول له حجرا محجورا لئلا يجور أحدهما على الآخر بالممازجة ، يعني حرم على العذب أن يملح وحرم على المالح أن يعذب بالاختلاط.
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤))
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) أي النطفة إنسانا (فَجَعَلَهُ نَسَباً) أي ذا نسب بأن يقال له يا فلان بن فلان (وَصِهْراً) أي ذا صهر وهو الختن ، يعني قسم البشر قسمين ، ذوي نسب ، أي ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر ، أي أناثا يصاهر ، أي يخالط بهن ، قال علي رضي الله عنه : «النسب ما لا يحل نكاحه من القرابة ،
__________________
(١) فاطر (٣٥) ، ٩.
(٢) عن ابن مسعود ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٦٣.