(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))
قوله (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) أم فيه منقطعة ، أي بل أتحسب أنهم يسمعون الهدى أو يعقلونه ليعرفوا ربهم فيوحدوه (إِنْ هُمْ) أي ما كفار مكة في الجهل والضلالة (إِلَّا كَالْأَنْعامِ) لأنهم لا يصغون إلى ما ينذرون به بل همتهم من العمر هو الأكل والشرب ، ثم فضل الأنعام عليهم فقال (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [٤٤] من الأنعام ، لأنها تنفر من ضرها وتطلب نفعها ، وهم يفرون من نفعهم ويطلبون ضرهم وإنما قال أكثرهم ، لأن بعضهم منعه حب الرياسة عن الإيمان.
(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥))
ثم دل إلى كمال قدرته وإظهار نعمته على خلقه ليعرفوه فيوحدوه بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) أي ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته كيف جعل الظل يمتد وينبسط فينتفع به الناس (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي دائما ، أي لاصقا بكل مظل من بناء وشجر وجبل غير منبسط فلم ينتفع به الناس ، والظل : ما نسخته الشمس وهو من الطلوع إلى الزوال ، والفيء : ما نسخ الشمس وهو من الزوال إلى الغروب (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) [٤٥] إذ لو لا الشمس لما عرف الظل ، وذلك بأن الله يبسط الظل بعد الانفجار (١) إلى طلوع الشمس ، ثم بطلوعها يظهر الظل تابعا لها في الزيادة والنقصان والامتداد والتقلص ، لأن الأشياء تعرف بأضدادها ، ومعنى كونها دليلا عليه أنهم يستدلون بالشمس وأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتا في مكان أو زائلا في مكان ومتسعا ومتقلصا فيبنون حاجاتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب الاستدلال بها بأحوالها.
(ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦))
(ثُمَّ قَبَضْناهُ) أي جمعنا المنبسط من الظل (إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) [٤٦] على مهل لحكمة نعلمها ، قيل : هي أنه لو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر منافع الناس بالظل والشمس جميعا (٢) ، إذ في القبض اليسير شيئا فشيئا من المنافع ما لا يعد ولا يحصى ، ومعنى «قبضه إليه» أن ينسخه بنور الشمس الذي هو الضوء المنقطع الواقع على الأرض ، وقيل : معنى «القبض» أن الشمس إذا غربت عاد الظل الأول ، ثم يقبضه الله قبضا خفيا شيئا فشيئا ثم يحدث الظلام بعده (٣) ، وإنما جاء ب (ثُمَّ) بين هذه الجمل لبيان تفاضل ما بين الأمور ، إذ الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم من الثاني.
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧))
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) أي سترا لتسكنوا فيه ، فيه تشبيه حال ظلام الليل الساتر للأشياء باللباس الساتر للبدن (وَ) جعل (النَّوْمَ سُباتاً) أي راحة لأبدانكم من السبت وهو القطع ، لأنه يقطعكم عن أعمالكم وبعضهم فسر السبات بالموت ، لأن النشور في مقابلته في قوله (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) [٤٧] أي للنشور ، يعني ينتشرون فيه لطلب الرزق.
(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩))
(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً) بالباء المضمومة مع ضم الشين والسكون للتخفيف جمع بشير وبشور وبشرى ، لأن الرياح تبشر بالمطر ، وقرئ بالنون كذلك جمع نشور (٤) ، أي ناشرة للمطر أو للسحاب (بَيْنَ يَدَيْ
__________________
(١) الانفجار ، وي : انفجار الصبح ، ح.
(٢) أخذ المؤلف هذا المعنى عن الكشاف ، ٤ / ١٥٠.
(٣) لعل المفسر اختصره من القرطبي ، ١٣ / ٣٨.
(٤) «بشرا» : قرأ المدنيان والمكي والبصريان بالنون مضمومة مع ضم الشين ، وابن عامر بالنون مضمومة مع إسكان الشين ، والأخوان وخلف بالنون مفتوحة مع إسكان الشين وعاصم بالباء الموحدة المضمومة مع إسكان الشين. البدور الزاهرة ، ٢٢٧.