(فَقالَ) الهدهد (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي أني أطلعت على قوم وعرفت من بلادهم وأحوالهم ما لا تعلمه أنت ولا أحد من جندك (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) اسم بلدة أو قبيلة لا تنصرف بالفتح لتعريفه وتأنيثه ، وقرئ بالجر مع التنوين (١) منصرف اسم لحي ، قوله (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [٢٢] متعلق بالمجيء ، وال «نبأ» الخبر الذي له شأن ، وال «يقين» العلم الذي لا يشوبه الشك والشبهة ، فبينه بقوله (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) أي تملك قومها واسمها بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ولم يكن له ولد غيرها فغلبت على الملك وأمها جنية لأنه ما كان يرى التزوج من الإنس (وَأُوتِيَتْ) تلك المرأة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يليق بها من أسباب الدنيا من الأموال والجنود وغيرها (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [٢٣] أي سرير كبير بالنسبة إلى أبناء جنسها ، قيل : في وصف عرشها كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين (٢) أو ثلاثين (٣) ، وكان من ذهب وفضة مكللا بالدر والزمرد والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، وكانت (٤) قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر وزمرد ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق.
(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤))
ثم أخبر عن دينها بقوله (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) مجوسا (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ) أي يعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الخبيثة (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي عن طريق الهدى وهو الإسلام (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) [٢٤] أي لا يعرفون دين الحق ، وإنما خفي حالها على سليمان مع قربه منها لمصلحة رآها الله كما أخفي عن يعقوب مكان يوسف ، وإنما أنكر الهدهد سجودهم للشمس واهتدى إلى معرفة الله تعالى ووجوب السجود له ، لأنه ألهمه الله ذلك كما يلهم سائر الطيور والحيوانات المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء يهتدون بها (٥).
(أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥))
(أَلَّا يَسْجُدُوا) بالتشديد (٦) ، «أن» فيه ناصبة بدل من أعمالهم أو مفعول (يَهْتَدُونَ) و «لا» زائدة ، أي لا يهتدون أن يسجدوا أو تقديره : لئلا يسجدوا متعلقا بقوله «فصدهم السبيل أو ب «زين» ، ومن قرأ بالتخفيف فمعناه : أن الهدهد قال عند ذلك لهم ألا يسجدوا ، «ألا» حرف التنبيه ، و «يا» حرف النداء والمنادى محذوف ، أي ألا يا قوم اسجدوا (لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) أي المخبوء وهو ما غاب من الثلج والمطر والنبات والأشجار (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) [٢٥] أي يعلم سر أهلهما وجهرهم ، قرئ فيهما بتاء الخطاب وبياء الغيبة (٧).
(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))
قوله (اللهُ) خبر مبتدأ محذوف ، أي الذي يعلم ذلك الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هو المستحق للعبادة لا غير ، قيل : من (أَحَطْتُ) إلى قوله (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [٢٦] من قول الهدهد (٨) ، والتخفيف والتشديد في (أَلَّا يَسْجُدُوا)
__________________
(١) «سبأ» : قرأ البزي والبصري بفتح الهمز من غير تنوين ، وقنبل باسكانها ، والباقون بكسرها منونة ، وأبدل الهمز وقفا حمزة وهشام ولهما تسهيله بالروم ولا يبدله السوسي وقفا لعدم سكون همزه أصالة. البدور الزاهرة ، ٢٣٤.
(٢) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٩٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٩٣.
(٣) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٩٨.
(٤) وكانت ، ح و : فكانت ، ي.
(٥) بها ، ح ي : لها ، و.
(٦) «أَلَّا يَسْجُدُوا» : قرأ الكسائي وأبو جعفر ورويس بتخفيف اللام ولهم الوقف ابتلاء على ألايا معا ويبتدئون باسجدوا بهمزة مضمومة ، ولهم الوقف اختبارا كذلك على ألا وحدها ويا وحدها والابتداء أيضا اسجدوا بهمزة مضمومة ، أما في حالة الاختيار فلا يصح الوقف على ألا ولا على يا ، بل يتعين وصلهما باسجدوا ، والباقون بتشديد اللام. البدور الزاهرة ، ٢٣٤ ـ ٢٣٥.
(٧) «تخفون» ، «تعلنون» : قرأ حفص والكسائي بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٢٣٥.
(٨) لعل المؤلف اختصره من البغوي ، ٤ / ٢٩٩.